عبد الرحيم باشا الدمرداش سيرة إنسانية تتجلّى في العمل الخيري

في قلب حي العباسية بالقاهرة، يقف صرحٌ طبيٌّ كبير يتردد صداه كل يوم في منح الفقراء دواءً وعناية؛ إنه مستشفى الدمرداش، علامة خالدة لـ «رجل الإنسانية» الشيخ/ عبد الرحيم مصطفى صالح الدمرداش باشا، الذي احتلّ اسمه مكانة بارزة في تاريخ العطاء المصري.
ولد عبد الرحيم الدمرداش عام 1849م في القاهرة، في أسرة الدمرداشية المعروفة التي وجدت جذورها الصوفية في الطريقة الخلوتية الدمرداشية، إذ ترأسها بعد والده، مُتّخذًا موقع شيخ الطريقة في شبابه بعد أن تلَقّى تعليمه في الأزهر الشريف ومبادئ التصوف.
نشأ في بيئة تجمع بين الزهد الديني والنشاط الاجتماعي، فجمع بين العلم والعطاء، وارتبط بأسماء من الحركة الفكرية والدينية في مصر مثل الإمام محمد عبده.
في 1928م خاطب عبد الرحيم باشا الحكومة بكتاب يتضمن هبة عظيمة لبناء مستشفى خيري. التبرعات شملت:
25 ألف جنيه من عبد الرحيم الدمرداش باشا نفسه.
50 ألف جنيه من ابنته «قوت القلوب الدمرداشية».
25 ألف جنيه من زوجته.
قطعة أرض مساحتها 15 ألف متر مربع في شارع الملكة نازلي (الذي يُعرف حالياً باسم شارع رمسيس) في العباسية أمام جامع الدمرداش، كان من ممتلكات العائلة.
المستشفى كان من المخطّط أن يتسع لـ 75 سريراً ويُبنى بمبلغ 40 ألف جنيه من المبلغ المتبرّع به، بينما يُرصد الباقي للمصاريف التشغيلية بشرط أن تتعهد الحكومة بسدّ عجز النفقات إذا توفر.
وُضع حجر الأساس للمستشفى يوم 24 نوفمبر 1928 بحضور رسمي كبير.
توفِّي عبد الرحيم باشا قبل أن تكتمل الأعمال عام 1928، لكن المستشفى افتتح رسميًا بعد وفاته في 1931م.
المستشفى كان خيريًّا، يشترط العناية بالمرضى مجانًا دون النظر لجنسياتهم أو دياناتهم.
في عام 1947م أنشئت كلية الطب داخل المستشفى، أُطلقت عليها كلية طب الدمرداش، وكانت ثالث كلية طب في مصر بعد القاهرة والإسكندرية.
في عام 1950م ضُمت الكلية والمستشفى إلى جامعة عين شمس بعد تأسيس الجامعة رسميًا.
كان عبد الرحيم باشا شيخ الطريقة الدمرداشية، وكان يُعرف بتديّنه، وزهده، ومشاركة العلماء والمفكّرين، وإيمانه بأن العطاء الصادق لا يُدخِل الرياء.
اشتهر بعمل صدقة جارية ترك أثرها باقٍ حتى يومنا هذا: المستشفى الذي بُني على أرضه وماله، والعناية التي تُقدم بالمجان للفقراء.
اليوم، وتحت مظلة جامعة عين شمس، يعمل مستشفى الدمرداش على استقبال آلاف المرضى سنويًا وتقديم خدمات في تخصصات متعددة. إلا أنه يواجه تحديات تحديث البنية التحتية، وزيادة التكاليف، والحاجة لتجهيزات طبية حديثة، خصوصًا في بعض أقسام مثل الأطفال.
قصة عبد الرحيم باشا الدمرداش ليست قصة مالٍ أو جاهٍ بقدر ما هي قصة إنسانية وإيمانية، جمعت بين حبّ الخير، والمسؤولية الاجتماعية، والإيمان بـ «أنّ يدا تُعطي خيرٌ من يد تسأل».
ترك إرثًا مؤسساتيًّا لا يزال يعالج الملايين، ويشكّل نموذجًا للعمل الخيري الذي يبني ولا يكتفي بالثناء، الذي يخدم الناس بلا نظرة إلى الأفضلية الاجتماعية.