محمود سامي البارودي ودوره في الثورة العرابية
يُعدّ محمود سامي البارودي أحد أبرز الرموز الوطنية والفكرية في تاريخ مصر الحديث، إذ جمع بين موهبة الشاعر المجدِّد، ودور السياسي المناضل، ليكون شاهدًا وصانعًا في آنٍ واحد لأحداث الثورة العرابية (1881–1882)، تلك الثورة التي مثّلت تعبيرًا صادقًا عن طموحات المصريين في الحرية والعدل والاستقلال الوطني.
وُلد محمود سامي البارودي عام 1839، ونشأ في بيئة عسكرية وثقافية، فالتحق بالمدرسة الحربية ثم بالجيش المصري، وتدرّج في المناصب حتى اكتسب خبرة واسعة بشؤون الدولة والجيش. وخلال خدمته، لمس حجم الظلم الواقع على الضباط المصريين، والتمييز لصالح الأتراك والشراكسة، فضلًا عن تفاقم النفوذ الأجنبي في شؤون البلاد، وهو ما أسهم في تشكيل وعيه الوطني ودفعه إلى الانحياز لقضايا الإصلاح والعدل.
مع تصاعد الحركة الوطنية واندلاع الثورة العرابية بقيادة الزعيم أحمد عرابي، برز البارودي كأحد أبرز مؤيديها، ليس فقط بصفته شاعرًا يحرّض بالكلمة، بل رجل دولة آمن بضرورة التحول الدستوري، وتقييد سلطة الخديوي، وإشراك الأمة في إدارة شؤونها. وقد بلغ هذا الدور ذروته حين تولّى منصب رئيس مجلس النظار (رئيس الوزراء) عام 1882، في أول حكومة ذات طابع وطني في تاريخ مصر الحديث.
تبنّى البارودي خلال رئاسته للحكومة مطالب الثورة العرابية، وفي مقدمتها: إقامة العدل، والمساواة بين أبناء الوطن، وإصلاح الجيش، وتأكيد مبدأ «مصر للمصريين». وقد وضعه هذا الموقف في مواجهة مباشرة مع الخديوي توفيق، وكذلك مع القوى الأجنبية، خاصة بريطانيا وفرنسا، اللتين رأتا في الحكومة الوطنية والروح الثورية تهديدًا مباشرًا لمصالحهما في مصر.
وعقب فشل الثورة العرابية واحتلال القوات البريطانية لمصر عام 1882، تعرّض محمود سامي البارودي لمحاكمة سياسية انتهت بالحكم عليه بالنفي خارج البلاد. فنُفي إلى جزيرة سرنديب (سيلان) لما يقرب من سبعة عشر عامًا، عاشها في عزلة قاسية، بعيدًا عن الوطن الذي أفنى عمره دفاعًا عنه. وفي منفاه، كتب البارودي أصدق وأعمق قصائده، حيث امتزج الحنين بالألم، وتحول الشعر إلى وثيقة وطنية تؤرخ لمرحلة الهزيمة والانكسار، وتكشف عن روح مقاومة لم تنكسر رغم النفي والمرض.
عاد البارودي إلى مصر في سنواته الأخيرة بعد أن أنهكه المرض، لكنه ظل محتفظًا بمكانته الرمزية بوصفه أحد رواد النهضة الأدبية، وأحد أعمدة الحركة الوطنية المصرية في القرن التاسع عشر. وقد رحل عن الدنيا في 12 ديسمبر عام 1904، بعد حياة حافلة بالكفاح والعطاء.
ودُفن محمود سامي البارودي في مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة، وسط كوكبة من رموز مصر الوطنية والفكرية، ليظل مثواه شاهدًا على مكانته التاريخية، وعلى دوره البارز في الثورة العرابية، وعلى نموذج فريد للمثقف المناضل الذي جمع بين السيف والقلم، وترك أثرًا خالدًا في وجدان الأمة وتاريخها.







