أنباء اليوم
الأحد 3 أغسطس 2025 05:30 صـ 8 صفر 1447 هـ
 أنباء اليوم
رئيس التحريرعلى الحوفي

إدمان العمل: حين يصبح الشغف سجناً والوظيفة قيداً

بقلم- ولاء مقدام

في عالم يمجد الإنجاز ويقدس الإنتاجية، يختلط الخيط الرفيع بين الطموح المشروع والإدمان المدمر. إدمان العمل، أو "الوركهوليزم"، ليس مجرد العمل لساعات طويلة، بل هو هاجس قهري يفقدك السيطرة، ويحول شغفك الذي كان مصدر قوتك إلى سجن تعيش فيه طوعاً. إنه اللص الخفي الذي يسرق منك لحظاتك الحاضرة، وعلاقاتك، وصحتك، بحجة بناء مستقبل قد لا تجد الوقت أو العافية للاستمتاع به.

المفارقة أن المجتمع غالباً ما يكافئ هذا النوع من الإدمان بالترقيات والثناء، مما يجعل الاعتراف به كـ "مشكلة" أمراً صعباً للغاية على المدمن ومن حوله. لكن خلف قناع "الموظف المثالي"، يقبع إنسان يصارع القلق، ويخشى الفراغ، ويهرب من شيء ما في حياته باللجوء إلى العمل.

أصناف مدمني العمل: نظرة عن قرب

لا يأتي إدمان العمل في قالب واحد، بل يتشكل ويتلون ليناسب شخصية "المدمن" ودوافعه الخفية. دعونا نتعرف على أبرز الأنواع في ساحة العمل:

1. النوع "الكمالي" (The Perfectionist Workaholic):

شعاره:"يجب أن يكون كل شيء مثالياً تماماً".

سلوكه: هذا النوع لا يعمل لساعات طويلة لأنه يحب العمل بالضرورة، بل لأنه يخشى النقص والخطأ. يقضي وقتاً لا نهائياً في مراجعة التفاصيل الدقيقة، ويؤجل تسليم المهام خوفاً من أنها ليست "جيدة بما فيه الكفاية"، مما يسبب له ولفريقه ضغطاً هائلاً.

علاجه الإبداعي (ورشة الترميم):علاجه يكمن في "ورشة الترميم النفسي". بدلاً من السعي خلف وهم الكمال، يجب أن يتعلم فن "الجيد الكافي". يمكنه البدء بوضع حدود زمنية صارمة للمهام، والتدرب على تسليمها حتى لو شعر بوجود نقص بسيط. عليه أن يحتفل بالإنجازات المكتملة بدلاً من التركيز على العيوب المحتملة، وأن يدرك أن الأخطاء هي جزء طبيعي من عملية النمو وليست انعكاساً لقيمته الشخصية.

2. النوع "الذي يرضي الجميع" (The People-Pleaser Workaholic): شعاره: "لا أستطيع أن أقول لا". سلوكه: دافعه الأساسي هو الحصول على القبول والتقدير من الآخرين. يوافق على كل مهمة تُطلب منه، ويتحمل أعباء تفوق طاقته، ليس حباً في العمل، بل خوفاً من أن يخذل زملاءه أو مديره. غالباً ما يشعر بالاستغلال ولكنه لا يملك القدرة على رسم الحدود.

علاجه الإبداعي (مدرسة الحدود): يحتاج هذا النوع للالتحاق بـ "مدرسة تعليم فن قول 'لا'". يبدأ بتدريبات بسيطة، مثل رفض طلب صغير أو تأجيل مهمة غير عاجلة. يجب أن يدرك أن قيمته لا تكمن في مدى خدمته للآخرين على حساب نفسه. يمكنه إعداد ردود جاهزة ومهذبة مثل: "أتمنى لو أستطيع المساعدة، لكن جدولي ممتلئ حالياً". كل "لا" يقولها هي "نعم" لصحته وراحته.

3. النوع "الهارب" (The Escapist Workaholic):

شعاره:"العمل هو ملاذي الآمن".

سلوكه:يستخدم هذا النوع العمل كمهرب من مشاكل شخصية أو عاطفية في حياته. سواء كانت علاقة مضطربة، أو شعوراً بالوحدة، أو فراغاً داخلياً، يصبح المكتب هو الملجأ الذي يحميه من مواجهة واقعه المؤلم. هو لا يعمل من أجل الإنجاز، بل للنسيان.

علاجه الإبداعي (رحلة المواجهة):علاجه هو "رحلة استكشافية للذات". بدلاً من الهروب، يجب أن يواجه ما يهرب منه. يتطلب هذا شجاعة كبيرة وقد يحتاج إلى مساعدة متخصص نفسي. عليه أن يخصص وقتاً "إجبارياً" خارج العمل لممارسة هوايات جديدة، أو التواصل مع الأصدقاء، أو حتى الجلوس في صمت مع أفكاره. الهدف هو بناء حياة خارج العمل تكون غنية ومُرضية لدرجة أنه لم يعد بحاجة للهروب إليها.

4. النوع "مدمن الأدرينالين" (The Adrenaline-Junkie Workaholic):

شعاره:"أنا أزدهر تحت الضغط".

سلوكه:هذا النوع مدمن على الإثارة والفوضى التي تأتي مع المواعيد النهائية الضيقة والأزمات. يؤجل المهام عمداً ليشعر باندفاع الأدرينالين عند إنجازها في اللحظة الأخيرة. الهدوء والروتين يشعرانه بالملل، لذا يخلق أزماته الخاصة ليبقي نفسه في حالة تأهب دائم.

علاجه الإبداعي (إعادة توجيه الطاقة): علاجه يكمن في "إعادة توجيه تدفق الأدرينالين". بدلاً من البحث عن الإثارة في فوضى العمل، يمكنه توجيه هذه الطاقة نحو أنشطة إيجابية ومثيرة خارج نطاق الوظيفة، مثل الرياضات الصعبة، أو تعلم مهارة جديدة تتطلب تركيزاً عالياً، أو حتى المشاركة في مشاريع تطوعية حماسية. عليه أن يتعلم التخطيط المسبق للمهام وتقسيمها إلى أجزاء صغيرة لتجنب ضغط اللحظة الأخيرة، ويكتشف أن الإنجاز الهادئ له لذته كنبسولة علاجية:

تذكر دائماً: أنت تدير عملك، لا تدع عملك يديرك قيمتك الحقيقية ليست في عدد ساعات عملك، بل في قيمة اللحظات التي تعيشها بوعي كامل. اعمل لتَحيا، ولا تَحيا لتعمل. فالحياة الحقيقية تحدث في الفواصل بين المهام، في ضحكة تشاركها مع من تحب، وفي شروق شمس لم تكن مشغولاً عنه في اجتماع. استرجع حياتك، فعملك يمكن تعويضه، أما وقتك وصحتك فلا.