أنباء اليوم
الإثنين 16 يونيو 2025 12:57 مـ 19 ذو الحجة 1446 هـ
 أنباء اليوم
رئيس التحريرعلى الحوفي

الحتمية النفسية .. هل نحن مسيرون أم مخيرون؟

ولاء مقدام
ولاء مقدام



في أعماق النفس البشرية، حيث تتقاطع الأفكار والمشاعر، يبرز سؤالٌ قديمٌ جديد: هل أفعالنا خاضعةٌ لحتميةٍ نفسيةٍ تحكمها دوافعنا اللاواعية، أم أننا أحرارٌ في اختياراتنا؟

هذا السؤال يُلخص جوهر الحتمية النفسية"، ذلك المفهوم الذي يرى أن كل سلوكٍ إنسانيٍّ هو نتيجةٌ حتميةٌ لعواملَ داخليةٍ أو خارجيةٍ قد لا نكون واعين بها.

ما هي الحتمية النفسية؟
الحتمية النفسية هي فكرةٌ فلسفيةٌ ونفسيةٌ تُشير إلى أن كل حدثٍ نفسيٍّ أو سلوكيٍّ له سببٌ محددٌ سواء أكان بيولوجيًا (مثل الجينات والهرمونات)، أو بيئيًا (مثل التربية والثقافة)، أو نفسيًا (مثل الصدمات والرغبات المكبوتة). بمعنى آخر، نحن لا نتصرف بشكلٍ عشوائي، بل تدفعنا قوى خفيةٌ قد لا ندركها.

مدارس الفكر المؤثرة في الحتمية النفسية
1. التحليل النفسي (فرويد):
رأى فرويد أن اللاوعي هو سيد القرارات، حيث تحركنا رغباتٌ مكبوتةٌ وصراعاتٌ طفوليةٌ لا نعيها. فحتى أكثر خياراتنا عقلانيةً قد تكون مُوجهةً بدوافعَ غريزيةٍ خفية.

2. السلوكية (واطسون وسكينر):
أكدت هذه المدرسة أن البيئةهي من تُشكل السلوك عبر التعلم والتكيف. فالإنسان – وفقًا لهم – نتاجٌ لمحفزاتٍ خارجيةٍ وردود أفعالٍ مكتسبة.

3. علم الأعصاب الحديث:
بينت الدراسات أن الكيمياء الدماغية (مثل تأثير الدوبامين على اتخاذ القرار) تلعب دورًا حاسمًا في توجيه سلوكنا، مما يعزز فكرة الحتمية البيولوجية.

إشكالية الحرية أم الحتمية
إذا كانت كل أفعالنا مُسيّرةٌ بأسبابٍ خارجةٍ عن إرادتنا، فهل نتحمل مسؤوليتها؟" هذا السؤال يُثير جدلًا أخلاقيًا وقانونيًا عميقًا:
- مؤيدو الحتمية:يرون أن فهم الأسباب الكامنة خلف السلوك (مثل اضطرابات الشخصية أو الإدمان) يجب أن يُخفف العقاب ويُعزز العلاج.
- المؤمنون بالإرادة الحرة:يُصرون على أن الإنسان قادرٌ على تجاوز ظروفه واختيار طريقته في الاستجابة، مما يجعله مسؤولًا أخلاقيًا.

توازنٌ جديد: الحتمية النسبية
ربما الحقيقة تكمن في منطقةٍ وسطى: نحن لسنا مُجرد دمى تُحركها خيوطُ الماضي أو البيولوجيا، لكننا أيضًا لسنا أحرارًا تمامًا من تأثيرها. الفهم الحديث يشير إلى أن:
- العقل الواعي يمكنه تعديلتأثير العوامل اللاواعية عبر التأمل والعلاج والوعي الذاتي.
-المرونة العصبية تثبت أن الدماغ قادرٌ على إعادة برمجة نفسه، مما يفتح بابًا للأمل في التغيير.

خاتمة: بين القيد والتحرر
الحتمية النفسية تُذكرنا بأننا جزءٌ من شبكةٍ معقدةٍ من الأسباب والنتائج لكنها لا تُنفي إمكانية التحرر من سجن العادات والغرائز. الفرق بين الشخص "المسير" و"المخير" قد يكمن في الوعي فكلما تعمقنا في فهم دوافعنا الخفية، كلما امتلكنا زمامَ التحكم بمصيرنا.

"الإنسان ليس عبدَ الماضي، ولا سيدَ المستقبل المطلق، لكنه بحرّيته المحدودة، يستطيع أن ينحت من صخر الظروف تمثالَ كرامته."
ولاء مقدام


كلماتُنا وأفعالُنا قد تكونُ مقيدةً بسلسلةِ أسبابٍ لا نراها، لكن الوعيَ هو البابُ الذي نفتحه لنخطو نحو حريتنا.