أنباء اليوم
السبت 1 نوفمبر 2025 03:36 مـ 10 جمادى أول 1447 هـ
 أنباء اليوم
رئيس التحريرعلى الحوفي

مصر تعيد كتابة ذاكرتها.. يوم ميلاد المتحف المصري الكبير

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

اليوم تُفتَح أبواب المتحف المصري الكبير أمام العالم، وتعلن مصر من قلب الجيزة أنها ما زالت تمتلك زمام الذاكرة الإنسانية، وتعرف كيف تروي حكايتها بنفسها بعد آلاف السنين من الصمت والتأويل
فاليوم لا يشبه سائر الأيام، فالعالم بأثره يشهد اليوم افتتاح أكبر متحف للآثار المصرية القديمة في العالم، ومهد ولادة جديدة لذاكرة الأمة وهويتها .
وقبل ساعات من الافتتاح الرسمي، كانت شوارع الجيزة تغص بالناس، تتقاطع فيها مشاعر الانتماء والدهشة والفرح ، شباب يرفعون الهواتف لالتقاط الصور، أطفال يلوّحون بالأعلام الصغيرة، وشيوخ يجلسون في هدوء يتأملون المشهد كمن يودّع زمنًا ويستقبل آخر..المصريون الذين طالما عاشوا بجوار الأهرامات، بدَوا اليوم وكأنهم يزورون أجدادهم بعد غيابٍ طويل .
من المقاهي إلى الميادين، ومن شرفات البيوت إلى صفحات التواصل الاجتماعي، سكنت الحكاية كل بيت .
وأمام الواجهة الزجاجية الشفافة التي تُطلّ على أهرامات الجيزة الخالدة، بدا المشهد وكأن الزمن يطوي آلاف السنين في لحظة واحدة، يلتقي فيها الماضي بالحاضر وجهاً لوجه .
تمثال رمسيس الثاني يقف شامخاً في قلب البهو العظيم، يستقبل الزوار بابتسامة الملوك، وكأنه يقول لهم: "لقد انتظرتكم طويلاً ".
فرحة شعب.. وصدى عالمي .. حالة من البهجة الوطنية عمّت البلاد
تزينت الشوارع بالأعلام، والقلوب بالحنين ، وتجلّى الفخر الشعبي في كل تفصيله ، في نظرات العاملين الذين شيدوا هذا الصرح على مدى عقدين، وفي دموع الأمهات اللاتي علمن أبناءهن أن حضارة مصر هي ميراثهم الذي لا يزول .
وسجّلت وزارة السياحة أرقاماً غير مسبوقة حيث بلغت نسبة الإشغال في فنادق القاهرة والجيزة 100٪، وحجوزات الطيران امتلأت قبل أسابيع، بعدما تحولت أنظار العالم إلى مصر التي تعلن اليوم سيادتها على ذاكرتها الحضارية أمام كل الأمم .
في هذا الحدث الذي يحضره عدد كبير من قادة الدول وكبار الشخصيات العالمية، تقرأ العواصم الكبرى الافتتاح كإعلان لعودة “القوة الناعمة المصرية” في أبهى صورها، وكأن مصر تقول للعالم " من يملك التاريخ، يملك المستقبل أيضًا " .
رحلة المتحف المصري الكبير بدأت في تسعينيات القرن الماضي، حين حلمت مصر ببناء صرح يليق بعظَمتها، وتم وضع حجر الأساس عام 2002
أما التصميم الفائز فقد جاء من شركة Heneghan Peng الأيرلندية، في رؤية معمارية تربط الشمس المنعكسة من قمم الأهرامات بقلب المتحف، وكأن الضوء ذاته يرسم حدود الحضارة .
اليوم، بعد أكثر من عقدين من العمل، يقف المتحف على مساحة تتجاوز ٣٠٠ ألف متر مربع، يضم أكثر من ١٠٠ ألف قطعة أثرية من العصور الفرعونية واليونانية والرومانية، من بينها كنوز الملك توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة كاملة منذ اكتشاف مقبرته في نوفمبرعام 1922 لكن المتحف لم يُبنَ فقط ليحفظ الآثار، بل ليُعيد تعريف العلاقة بين المصري وتاريخه، بين الإنسان والخلود، بين ماضٍ ما زال حيًا ومستقبلٍ يولد من رحم الذاكرة .
وفي مشهد لم تعرفه أي مناسبة ثقافية من قبل، اجتمع المصريون على الفضاء الإلكتروني في احتفالٍ موازٍ لا يقل جمالًا عن الحدث الواقعي
فقد أطلقت مواقع التواصل الاجتماعي موجة واسعة من التفاعل، استخدم خلالها الملايين تطبيقات الذكاء الاصطناعي لصنع صورٍ لأنفسهم بملابس فرعونية من داخل قاعات المتحف، في هيئة ملوك وملكات مصر القديمة و امتلأت الصفحات بصورٍ لأشخاصٍ عاديين يرتدون تيجان الذهب ويُمسكون الصولجانات الملكية، يكتبون تحتها"كلنا أبناء الملوك.. وكلنا امتداد لهذا المجد".
كانت تلك الصور أكثر من مجرد - ترند — كانت تعبيرًا عميقًا عن شعور جماعي بالانتماء، وكأن التكنولوجيا الحديثة أعادت للمصريين ملامحهم القديمة، التي لم تغب بل كانت تنتظر لحظة كهذه لتعود وتزدهر .
ولا يُمكن اختزال المتحف المصري الكبير في كونه مشروعًا أثريًا أو إنجازًا عمرانيًا بل يجب النظر اليه كونه مرآة لهوية مصر الجديدة، التي تُعيد بناء الحاضر بالروح ذاتها التي شيّدت الأهرامات..فالمتحف يضم مركزًا متطورًا للترميم هو الأكبر في الشرق الأوسط، ومساحات ثقافية وتعليمية ومناطق للترفيه والحدائق، ليصبح مؤسسة حية تروي قصة مصر في لغة يفهمها كل العالم .
وفي المساء، حين تلامس أنوار المتحف أحجار الأهرامات، يُخيَّل للمرء أن التاريخ نفسه يبتسم وأن ذلك الضوء الذهبي لا يضيء المبنى فقط، بل يضيء الوجدان، يذكّر المصريين بأنهم لم يكونوا يوماً مجرد ورثة للحضارة، بل صُنّاعها الأصليون .
وفي هذه اللحظة التي تفيض فخرًا، يمكن القول إن مصر لا تفتتح متحفًا فحسب، بل تفتتح فصلًا جديدًا في كتاب الوعي الإنساني، تؤكد فيه أن من علّم العالم معنى الجمال والخلود، ما زال قادرًا على أن يُعلّمه كيف يصنع المستقبل .