من أبيدوس إلى المتحف المصري الكبير رحلة «لوحة وني» عبر العصور

تُعد «لوحة وني» إحدى أبرز الشواهد التاريخية التي تروي صفحات مضيئة من تاريخ الإدارة والجيش في مصر القديمة، وهي قطعة فريدة تنتمي إلى عصر الأسرة السادسة، نحو عام 2300 قبل الميلاد. هذه اللوحة الحجرية التي حُفرت عليها سيرة ذاتية لأحد كبار رجال الدولة، القائد والوزير وني، عاشت رحلة طويلة امتدت من باطن الأرض في أبيدوس إلى صالات العرض المهيبة في المتحف المصري الكبير.
تم اكتشاف لوحة وني بمنطقة أبيدوس بمحافظة سوهاج، وهي واحدة من أهم مناطق الدفن الملكي في الدولة القديمة. عُثر عليها ضمن بقايا مقبرة وني، الذي كان يشغل مناصب رفيعة في عهد عدد من ملوك الأسرة السادسة، من بينهم الملك تيتي وبيبي الأول ومرن رع.
اللوحة تُعد من أقدم النصوص السير الذاتية في تاريخ البشرية، إذ يسجل وني فيها تفاصيل حياته وإنجازاته، فيتحدث عن حملاته العسكرية التي قادها باسم الملك، وعن إصلاحاته الإدارية، ما جعلها وثيقة لا تقدر بثمن لدراسة تاريخ الإدارة والحروب في مصر القديمة.
بعد اكتشافها، نُقلت اللوحة إلى المتحف المصري بالتحرير، حيث عُرضت لعقود طويلة ضمن قاعات الدولة القديمة. كانت مقصدًا للباحثين والدارسين من مختلف أنحاء العالم، إذ تجمع بين الدقة الفنية والثراء النصي التاريخي، مما جعلها مرجعًا أساسيًا في دراسة تطور السيرة الذاتية والنقوش الجنائزية في مصر القديمة.
ومع بدء نقل كنوز مصر الأثرية إلى المتحف المصري الكبير، كان من الطبيعي أن تحظى لوحة وني بمكان مميز ضمن سيناريو العرض الدائم الجديد، الذي يُبرز تطور الفكر الإداري والعسكري في مصر القديمة.
اليوم، تُعرض «لوحة وني» ضمن مجموعة الدولة القديمة في المتحف المصري الكبير، في جناح يعرض سِيَر أعظم رجال الدولة الذين خدموا الملوك في فجر الحضارة المصرية. وبهذا الانتقال، تُستكمل رحلة اللوحة التي بدأت من الرمال الجنوبية إلى أضخم متحف أثري في العالم.
العرض الجديد يتيح للزائرين قراءة النقوش بوضوح من خلال إضاءة دقيقة وتقنيات عرض متطورة، تُبرز جمال النقش الهيروغليفي ودقته، كما تتيح الشاشات التفاعلية المجاورة ترجمة النصوص وتفسيرها باللغات المختلفة.
لا تُعد لوحة وني مجرد قطعة حجرية؛ بل هي شهادة صادقة على قيم العمل والانضباط والولاء في مصر القديمة، وتجسيد حي لروح المسؤولية التي حملها رجال الدولة في سبيل خدمة الوطن والملك.
ومع عرضها في المتحف المصري الكبير، تستعيد مصر مرة أخرى قصة رجلٍ عاش قبل أكثر من أربعة آلاف عام، لكنه لا يزال يُحدثنا بصوته المنقوش على الحجر عن الإدارة والقيادة والوفاء للوطن.