مقبرة الملكة حتب حرس لغز أمّ الملك خوفو من باطن الجيزة إلى بهو المتحف المصري الكبير

في صباح يوم من أيام فبراير عام 1925، وبينما كان أحد المصورين التابعين لبعثة جامعة هارفارد يُعد كاميرته لتصوير موقع بجوار الهرم الأكبر بالجيزة، غرست إحدى قوائم الحامل في شق بالحجر، لتنكشف بداية واحدة من أغرب القصص في تاريخ علم الآثار المصري. فقد كان هذا الشق مدخلًا لبئر غائر في الأرض عمقه نحو سبعةٍ وعشرين مترًا، يقود إلى حجرة دفن صغيرة احتفظت لآلاف السنين بأسرار الملكة حتب حرس الأولى، زوجة الملك سنفرو وأم الملك خوفو باني الهرم الأكبر.
كان عالم الآثار الأمريكي جورج رايسنر هو المسؤول عن الحفائر في منطقة الأهرامات منذ عام 1905، لكنه كان وقتها في الولايات المتحدة، فتولى مساعده ألان روفي مهمة فتح المقبرة في الثامن من مارس 1925. وعندما أزيحت الكتل الحجرية التي كانت تغلق الحجرة بإحكام، ظهر مشهد مهيب وغريب في آن واحد؛ غرفة ممتلئة ببقايا أثاث محطم مغطى بطبقة كثيفة من الغبار، وصفائح من الذهب متناثرة على الأرض، وأوانٍ مكسورة، وقطع خشب بالية تحللت بفعل الزمن. كانت كل المواد العضوية قد فسدت، ولم يتبقَّ منها سوى شظايا متناثرة تدل على عظمة ما كان هنا ذات يوم.
وعندما عاد رايسنر من أمريكا بعد أسابيع قليلة، أمر بإغلاق المقبرة حتى إشرافه بنفسه على العمل، ثم بدأ مع فريقه عملية تفريغ دقيقة للمحتويات، استمرت شهورًا طويلة، شارك فيها عدد من أبرز مساعديه، من بينهم الرسام دوس دانهام والعالم نويل ويلر، حيث وثقوا كل تفصيلة في 1701 صفحة وأكثر من ألف صورة فوتوغرافية، وصنعوا بذلك واحدًا من أوثق سجلات التنقيب في القرن العشرين.
وفي الثالث من مارس عام 1926، فُتح التابوت المصنوع من حجر الألباستر في حضور كبار مسؤولي الآثار. لكن المفاجأة الكبرى كانت أنه فارغ تمامًا. وقف رايسنر مذهولًا للحظة قبل أن يقول ساخرًا أمام الحاضرين: «يبدو أن الملكة حتب حرس غير مستعدة للمقابلة!»، في حين وُجد الصندوق الكانوبي المجاور محكم الإغلاق وبداخله الأحشاء المحنطة، مما زاد الغموض حول مصير الجثمان.
ولم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد، ففي الثامن عشر من أبريل عام 1927، وبعد أكثر من عام على عملية الفتح الأولى، قرر رايسنر رفع التابوت الذي يزن أكثر من طنين اثنين، وكشف عن الزاوية المغلقة داخل حجرة الدفن. وهناك، وُجدت الأربعة أواني الكانوبية الأصلية، لا تزال سليمة تمامًا، محفوظة كما تركها المصريون القدماء قبل أكثر من أربعة آلاف عام. كان ذلك الاكتشاف تتويجًا لعمل دؤوب استمر نحو عامين كاملين، وفتحًا جديدًا لفهم طقوس الدفن الملكية في بدايات الدولة القديمة.
رسم «دوس دانهام» لوحة دقيقة تُظهر حجرة الدفن كما وُجدت، وقد تراصت فيها الصناديق والأواني والقطع المكسرة في فوضى صامتة تروي وحدها قصة دفن مضطرب. ومن خلال هذا الرسم أصبح من الممكن إعادة تكوين الأثاث والمقتنيات الأصلية، التي اعتُبرت بعد ترميمها من أروع ما وصل إلينا من عهد الدولة القديمة.
ضمت المقبرة مجموعة مذهلة من الكنوز التي أعادت إحياء ملامح الحياة الملكية في بدايات الأسرة الرابعة، منها سرير مذهّب بأرجل على هيئة أسود، وكرسيان ملكيان ومحفة مذهبة كانت تُستخدم في المواكب، وصندوق كانوبي يحتوي على الأحشاء المحنطة داخل أربع حجرات حجرية متقنة الصنع، بالإضافة إلى مجموعة من المجوهرات النفيسة تضم أساور فضية نادرة مرصعة بالأحجار الكريمة من اللازورد والتركواز والمرجان الأحمر، وأوانٍ من الألباستر لحفظ الزيوت والعطور، وأقمشة كتانية مذهبة كانت تغلف الأثاث. وعلى الرغم من تحلل كثير من المواد، فقد استطاع فريق رايسنر إعادة تركيبها بدقة مذهلة جعلتها تُعد من أروع الكنوز الفنية التي عُثر عليها من عصر الأهرامات.
وبعد سنوات طويلة من الدراسة والترميم، عُرضت مقتنيات المقبرة على الجمهور في المتحف المصري بالتحرير ، لتُدهش الزائرين بفخامتها ورقتها في آنٍ واحد، إذ تجسّد في كل قطعة منها ملامح الأنوثة الملكية والهيبة الفرعونية التي تميزت بها ملكات الدولة القديمة.
وفي السنوات الأخيرة، نُقلت هذه المجموعة النفيسة إلى المتحف المصري الكبير بالجيزة ضمن خطة شاملة لحفظ كنوز الأسرة الرابعة وعرضها في سياق متكامل. وبعد عمليات ترميم دقيقة، أصبحت مقتنيات الملكة حتب حرس تُعرض اليوم إلى جوار آثار ابنها الملك خوفو في قاعة تُجسّد قصة العائلة الملكية التي شيّدت أعظم معجزة معمارية في التاريخ الإنساني.
هكذا، وبعد قرون من الصمت تحت رمال الجيزة، خرجت الملكة حتب حرس من ظلال الغموض إلى نور المتحف المصري الكبير، لتروي قصتها للعالم من جديد، قصة الأم التي منحت الحياة لملكٍ خلد اسمه بين نجوم السماء، وبقيت هي شاهدة على روعة الفن والإيمان بالخلود في حضارة مصر القديمة.