بقيعُ مصر وفسطاطُه ذاكرة الأولياء والعلماء
يُعَدّ نطاق الإمام الشافعي في قلب القرافة الكبرى واحدة من أعمق الرقع الروحية في مصر، حتى صار يُسمّى بين الباحثين بـ “بقيع مصر”؛ ففي هذا الامتداد المقدس تجتمع طبقات من قبور الصحابة والتابعين وأئمة الفقه والحديث والقراءات والصوفية، إلى جانب مشاهد آل البيت التي تُضيء القاهرة بنورها منذ نشأة الفسطاط، أولى العواصم الإسلامية في البلاد.
منذ أن أسّس عمرو بن العاص المدينة الجديدة على تخوم النيل، تحوّلت الفسطاط إلى مقصد للعلماء والفقهاء والصالحين. ومع اتساع القاهرة في العصور اللاحقة، احتفظت القرافات بطابعها الروحاني، فأصبحت مدينة عظمى تحت السماء، تُظلّلها القباب الحجرية وتحتضن رفات أعلام الأمة.
في قلب هذا الامتداد يتربّع ضريح الإمام الشافعي تحت القبة التي بناها صلاح الدين الأيوبي وجدّدها سلاطين مصر، فصار وجوده محوراً لدفن العلماء ومحبي العلم من كل مذهب. حول هذا الضريح تجمّعت قبور الأئمة والفقهاء والمحدّثين، يتقدمهم الإمام المزني صاحب المختصر، والإمام الطحاوي صاحب العقيدة الشهيرة وعماد الحنفية في مصر، ومسجد الإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر وعالمها الأكبر في الفقه والحديث، الذي سبق الأئمة الأربعة واحتفظ المصريون بعلمه جيلاً بعد جيل.
وفي امتداد القرافة يبرز ضريح الإمام ورش، شيخ القرّاء في مصر، الذي ارتبط اسمه بالفسطاط وتحوّلت روايته إلى هوية دينية للمصريين وشمال أفريقيا. قريباً منه يشرق ضريح الإمام وكيع بن الجراح، شيخ الشافعي وأحد أعلام الحديث. وتحتفظ المنطقة أيضاً بمشهد ومسجد سيدي عقبة بن عامر الجهني الصحابي الجليل وقائد الفتوح، الذي يمثّل بوجوده هنا صلة حية بين مصر والجيل الأول من المسلمين.
وتضم المنطقة قبور السادة المالكية الذين رسخوا المذهب المالكي في مصر منذ قدوم تلامذة الإمام مالك، كما تضم آل البكري أحفاد أبي بكر الصديق، وهي أسرة كان لها أثر علمي وروحي كبير في القاهرة. وعلى مقربة منهم تنتشر مشاهد الأولياء والصالحين الذين تعاقبت أجيالهم عبر العصرين الفاطمي والمملوكي، فامتلأت القرافة بمقامات لشيوخ الصوفية وأرباب السلوك.
ومن أبرز الأولياء الآخرين الذين تحتضنهم هذه الأرض الواسعة: أبو السعود الجارحي الشيخ الصوفي الكبير الذي اجتمع حوله المريدون، والشيخ محمد بن سيرين.
وإلى جانب العلماء، تزدهر المنطقة بمشاهد آل بيت النبي، في مقدمتها شارع الأشراف، وهو شريط نوراني يمتد من السيدة سكينة إلى السيدة رقية والسيدة عاتكة، ويصل إلى مقام السيدة نفيسة “نفيسة العلم”، حفيدة الحسن بن علي، التي عاشَت في الفسطاط وعلّمت المصريين وأصبحت رمزاً للزهد والعلم والبركة. هذا الشارع ليس مجرد طريق، بل هو رحلة روحية تتلألأ فيها مشاهد آل البيت والصالحين.
إن نطاق الإمام الشافعي، ومعه شارع الأشراف والسيدة نفيسة والقرافة الكبرى والصغرى، يُعَدّ متحفاً مفتوحاً للروح الإسلامية في مصر؛ مكان تلتقي فيه قبور الصحابة والتابعين بأضرحة الفقهاء، ويجاور فيه القرّاء المحدّثين، وتتعانق فيه مدارس الشافعية والمالكية والحنفية، وتُظلّله بركات آل البيت والأولياء والصالحين. إنه ليس مجرد أرض دفن، بل ذاكرة مصر الروحية والفقهية والصوفية، وبحق هو بقيع مصر وفسطاطها؛ الموضع الذي حفظ سيرة الأمة ألف عام وما يزال يحتضنها بصمتٍ عميق.

