الإمام ورش صوت مصر الخالد وشيخ القرّاء الذي تجاوز أثره حدود الزمن
في ذاكرة التلاوة القرآنية يقف الإمام ورش، اسمه يسطع كأحد أهم أعلام القراءات في العالم الإسلامي، وصاحب المدرسة التي امتد أثرها عبر القرون حتى أصبحت قراءة ورش عن نافع من أشهر القراءات الشرقية والمغربية على السواء، بل القراءة الأكثر حضورًا في ربوع شمال أفريقيا والمغرب العربي. وُلد عثمان بن سعيد المصري، المعروف بورش، في مصر عام 110 هـ، ونشأ في بيئة علمية أخذت بيد الصبي سريع الحفظ إلى حلقات القرآن، قبل أن يشدّ الرحال إلى المدينة المنورة ليتتتلمذ على يد الإمام نافع المدني، شيخ الإقراء في زمانه، الذي رأى في ورش ذكاءً وسرعة فهم وجودة أداء، فأجازه بالقراءة وعاد به إلى مصر إمامًا متقنًا يحمل ميراث المدرسة المدنية في أبهى صورها.
وقد اكتسب ورش لقبه من بياض بشرته وإشراق وجهه، فكان إذا جلس بين القرّاء لفت الأنظار بروحه الهادئة وأدائه المتقن، حتى أصبح المرجع الأول في مصر لمن أراد الإتقان، وتحوّلت طريقته إلى منهج مستقل له قواعده وضبطه، ليحمل لاحقًا آلاف العلماء والمقرئين هذا الإسناد الذي يعود إلى الإمام نافع ثم إلى الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه. وقد ارتبطت قراءة ورش بالدقة الصوتية ورشاقة الأداء وتنوّع النبرات، وهي صفات جعلتها تنتشر من فاس وتلمسان والقيروان إلى وادي النيل نفسه، وتصبح جزءًا أصيلًا من الموروث القرآني الذي يتناقله المسلمون جيلاً بعد جيل.
وإذا كان ورش قد عاش حياته بين العلم والإقراء، فإن مدفنه ما زال شاهدًا على مكانته العلمية. يرقد الإمام في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة، وتحديدًا داخل جبانة الطحاوية بمقابر الامام الشافعي، في شارع الفارسي المتفرع عموديًا عن شارع مسجد لؤلؤ، وهي منطقة تعد إحدى أهم الجبانات التاريخية التي حافظت عبر العصور على رموزها ومكانتها الروحية. وتمتاز جبانة الامام الشافعي بكونها جزءًا من الامتداد العمراني والروحي القديم الذي يبدأ من الفتح الإسلامي لمصر، حين أوصى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن تكون تلك البقعة الواسعة مقرًا لدفن المسلمين وذلك في عهد الصحابي عمرو بن العاص، وذلك احترامًا لحرمتها واعترافًا بمكانتها. ومنذ ذلك الحين ظلّت الجبانة تحتضن العلماء والفقهاء و القرّاء والرموز الوطنية من مختلف العصور، لتتحول إلى سجل مفتوح لتاريخ مصر الروحي.
ولأن قيمة المكان من قيمة من يرقد فيه، فقد أصبح ضريح الإمام ورش أحد المعالم ذات الدلالة الدينية والثقافية، ليس فقط لكونه ضريح أول من وضع قواعد الأداء لقراء القرآن في مصر، وإنما لأنه يجمع بين تاريخ التلاوة وجغرافيا القاهرة القديمة وروحانيات المنطقة التي تضم أضرحة الصالحين والأعلام. والمكان، على بساطته، يشهد زيارات لطلاب العلم ومحبي القراءات الذين يقفون أمامه متأملين في مسيرة الرجل الذي نقل القرآن بصوت مطبوع بالخشوع والضبط.
رحل الإمام ورش عن الدنيا في مصر عام 197 هـ، بعد أن قضى عمره مع القرآن، إلا أن صوته ما زال حاضرًا في قلوب الملايين الذين يتلون بطريقته كل يوم. وبينما يستمر انتشار قراءته في العالم الإسلامي، يظل ضريحه في جبانة الطحاوية بمنطقة الامام الشافعي شاهدًا على رجل ساهم في تشكيل الوجدان الديني للمسلمين، وأضحى اسمه رمزًا للعلم والصدق والإتقان، و جزءًا لا يتجزأ من تراث مصر الديني الذي حافظ عبر الزمن على كرامة دولتهم وهويتها الروحية.

