باحثة تشيد بعودة التراكيب التراثية إلى الحياة التي توثق سِيَر رموز مصر والعالم العربي
تشهد التراكيب الجنائزية التاريخية في مصر مرحلة جديدة من الإحياء، بعد أن استعادت حضورها الجمالي والإنساني، لتتحول من شواهد صامتة إلى صفحات مفتوحة من التاريخ. فهذه التراكيب لا تختزن الذاكرة الفردية لأصحابها فحسب، بل تمثل سجلًا ماديًا يوثق تحولات المجتمع المصري ودوره الثقافي والسياسي عبر القرون.
وفي هذا الإطار، تؤكد الباحثة سلمي أحمد، المتخصصة في التراث المصري، أن إعادة إحياء التراكيب التراثية تعني استعادة جزء أصيل من الهوية الوطنية، موضحة أن “العمارة الجنائزية مرآة دقيقة للعصر، تكشف عن الذوق الفني، والبنية الاجتماعية، والمكانة الرمزية للشخصيات المدفونة”.
وتشير الباحثة إلى أن من أبرز هذه الرموز إسماعيل باشا سليم ناظر الجهادية في عصر سعيد باشا، الذي ارتبط اسمه بمؤسسات الدولة المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث يعكس تركيبه الجنائزي روح الدولة الحديثة في بداياتها، من حيث الصرامة المعمارية والدلالة الرسمية، بما يعكس مكانته ودوره في خدمة الوطن.
كما يحضر أحمد شوقي، أمير الشعراء، بوصفه أحد أعمدة النهضة الأدبية الحديثة، إذ لم يكن شاعرًا فحسب، بل رمزًا ثقافيًا شكّل الوعي الجمعي للأمة العربية. وتوضح سلمي أحمد أن شواهده الجنائزية تحمل قيمة رمزية خاصة، حيث يلتقي فيها الأدب بالفن، وتتحول الكلمة الخالدة إلى نقش حجري لا يقل خلودًا عن شعره.
ومن الشخصيات النسائية البارزة، تبرز كلزار هانم، إحدى سيدات المجتمع في عصر أسرة محمد علي، والتي تعكس حياتها وتركيبها الجنائزي مكانة المرأة النبيلة في القرن التاسع عشر، ودورها الاجتماعي داخل منظومة الحكم والمجتمع الراقي آنذاك.
كما تتوقف الباحثة سلمي احمد بأن زهرة هانم فاضل، المنتمية إلى إحدى أسرة محمد علي باشا ، مؤكدة أن تركيبتها الجنائزية تمثل نموذجًا للفن الجنائزي الذي يجمع بين البساطة والرقي، ويعكس مفاهيم الوجاهة والهوية العائلية في تلك الفترة.
ولا يغيب البُعد العربي عن هذا المشهد، حيث تشير سلمي أحمد إلى حقي العظم، رئيس وزراء سوريا في النصف الأول من القرن العشرين، بوصفه مثالًا على التداخل السياسي والثقافي بين مصر وبلاد الشام. وتؤكد أن وجود شخصيات عربية بارزة في المدافن التاريخية المصرية يبرز دور القاهرة كمركز جامع للنخب العربية ومسرح للأحداث المفصلية في تاريخ المنطقة.
وفي بعدٍ إنساني واجتماعي بالغ الأهمية، تتوقف الباحثة أمام المحسنة الكبيرة عائشة هانم صديقة، التي تمثل نموذجًا فريدًا للعطاء الخيري في تاريخ مصر الحديث. فقد ارتبط اسمها بالأعمال الوقفية والإنسانية، ودعم الفقراء والتعليم والرعاية الاجتماعية، ما جعل تركيبتها الجنائزية شاهدًا على سيرة امرأة تجاوز تأثيرها حدود عصرها، لتبقى رمزًا للخير والعمل العام.
كما يحضر اسم محمود باشا الفلكي، العالم المصري الكبير وأحد رواد علم الفلك والجغرافيا في القرن التاسع عشر، والذي ساهم في رسم خرائط مصر وتوثيق معالمها، وكان له دور علمي بارز في مشروعات الدولة الحديثة. وترى سلمي أحمد أن تركيبه الجنائزي لا يخلد عالمًا فحسب، بل يخلد مرحلة ازدهار العلم والمعرفة في مصر، حين كانت المعرفة ركيزة من ركائز النهضة.
وتختتم الباحثة سلمي أحمد تصريحها بالتأكيد على أن الحفاظ على التراكيب التراثية هو حفاظ على التاريخ ذاته، قائلة: “هذه الشواهد ليست أحجارًا، بل ذاكرة أمة، وكل تركيب يُنقذ هو سطر يُعاد إلى كتاب التاريخ”. فبعودة هذه التراكيب إلى الحياة، يستعيد الماضي حضوره، ويتحول التراث إلى رسالة حية موجهة للمستقبل.


