مقابر الخالدين ذاكرة وطن تتجسد بين عين الصيرة والإمام الشافعي
في قلب القاهرة التاريخية، وعلى مقربة من بحيرة عين الصيرة والمتحف القومي للحضارة المصرية، تتجلى مقابر الخالدين بوصفها أحد أكثر المواقع تفردًا في خريطة التراث الجنائزي المصري. فالمكان لا يختزن رفات رموز وطنية فحسب، بل يحتضن طبقات متراكمة من الذاكرة الثقافية والفنية والتاريخية، في مشهد تتجاور فيه العمارة الجنائزية مع المعالم الأثرية الكبرى، ليصنع لوحة نادرة تعكس هوية المدينة وعمقها الحضاري.
يقع موقع مقابر الخالدين في نطاق جغرافي بالغ الدلالة؛ إذ يجاور بحيرة عين الصيرة التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى متنفس حضاري وسياحي، ويرتبط بصريًا وثقافيًا بالمتحف القومي للحضارة، الذي يروي قصة الإنسان المصري عبر العصور. هذا القرب المكاني يمنح مقابر الخالدين بعدًا استثنائيًا، حيث تنتقل الذاكرة من قاعات العرض المتحفي إلى فضاء مفتوح يضم شواهد وتراكيب جنائزية حقيقية، تحمل أسماء وسير شخصيات صنعت تاريخ مصر الحديث.
ولا تتوقف أهمية الموقع عند هذا الحد، إذ يمتد في محيط يضم موقع مشهد الطباطبا بعد نقله، وبجوار قبة رقية دودو بمنطقة الإمام الشافعي، أحد أبرز أقاليم القاهرة الجنائزية والتاريخية، فضلًا عن قربه من سور مجرى العيون، ذلك الصرح المعماري الذي مثّل شريان الحياة للمياه في القاهرة الإسلامية لقرون طويلة. هذا التداخل بين المقابر والمعالم يجعل من مقابر الخالدين جزءًا لا يتجزأ من نسيج عمراني وتاريخي متكامل، لا يمكن فصله أو التعامل معه بمعزل عن محيطه.
وتبرز مقابر الخالدين باعتبارها حاضنة لتراكيب وشواهد عدد من الرموز الوطنية، التي جاءت من مناطق مختلفة، وتم تجميعها في هذا الموقع حفاظًا عليها من الاندثار أو الإزالة. هذه التراكيب، بما تحمله من عناصر فنية ونحتية وزخرفية، تعكس مدارس متعددة في فنون العمارة الجنائزية، بدءًا من البساطة الكلاسيكية، وصولًا إلى التراكيب الغنية بالتفاصيل والزخارف الكتابية والنباتية.
وتُعد الشواهد الجنائزية داخل مقابر الخالدين وثائق تاريخية قائمة بذاتها؛ فهي لا تكتفي بتسجيل اسم المتوفى وتاريخ وفاته، بل تقدم شذرات من سيرته ومكانته الاجتماعية والثقافية، فضلًا عن دلالات فنية مرتبطة بفترة إنشائها. فالخطوط المستخدمة، ونوعية الحجر، وأسلوب النحت، جميعها عناصر تفتح المجال أمام قراءة التاريخ من منظور مختلف، حيث يصبح الحجر شاهدًا على التحولات الاجتماعية والفكرية.
وفي هذا السياق، تؤكد الباحثة سلمى أحمد، المتخصصة في مجال التراث، أن مقابر الخالدين تمثل تجربة مهمة في إعادة الاعتبار للعمارة الجنائزية بوصفها جزءًا أصيلًا من التراث المصري، مشيرة إلى أن تجميع شواهد الرموز الوطنية في موقع واحد يساهم في حمايتها من الضياع، لكنه في الوقت ذاته يفرض مسؤولية مضاعفة تتعلق بالتوثيق العلمي الدقيق، وأعمال الترميم المتخصصة، والحفاظ على القيمة التاريخية لكل تركيبة وشاهد.
وتوضح سلمى أحمد أن المقبرة ليست مجرد مكان للدفن، بل وثيقة حضارية مفتوحة، تعكس الذوق الفني والسياق الاجتماعي والسياسي لعصرها، مؤكدة أن التعامل مع هذه الشواهد يجب أن يتم بمنطق الحفظ لا النقل فقط، وبمنظور ثقافي يربط بين المكان والذاكرة، حتى لا تتحول المقابر إلى كتل حجرية منزوعة الروح أو المعنى.
وترى الباحثة أن موقع مقابر الخالدين، بما يتمتع به من قرب جغرافي من المتحف القومي للحضارة وبحيرة عين الصيرة ومنطقة الإمام الشافعي ومجرى العيون، يؤهله ليكون محطة رئيسية ضمن مسار ثقافي وسياحي متكامل، يعيد تقديم القاهرة كمدينة حية متعددة الطبقات، تجمع بين الأثر والمتاحف المفتوحة والعمارة الجنائزية في سرد واحد متصل.
وأن الحفاظ على مقابر الخالدين لا يقتصر على الترميم المادي، بل يتطلب نشر الوعي بقيمتها، وإشراك المجتمع في فهم دورها كجزء من الهوية الوطنية، وليس باعتبارها مجرد مدافن أو مواقع هامشية.
إن مقابر الخالدين، بموقعها الفريد وتراكيبها التي تضم شواهد الرموز الوطنية، تقدم نموذجًا بالغ الأهمية لكيفية صون الذاكرة واحترام التاريخ. فهي تؤكد أن تكريم الرموز لا يكون فقط بتخليد أسمائهم في الكتب، بل بالحفاظ على آثارهم المادية، التي تشهد على حضورهم وتأثيرهم. ومن هنا، تصبح حماية هذا الموقع واجبًا ثقافيًا ووطنيًا، لأنه يمثل صفحة حية من تاريخ مصر، مكتوبة على الحجر، ومفتوحة للأجيال القادمة لتقرأها وتتعلم منها.


