منف والإمام الشافعي والسيدة نفيسة استمرارية العمارة الجنائزية المصرية من مقابر الملوك إلى جبانات الصالحين
منذ فجر التاريخ، كانت فكرة الخلود والحياة بعد الموت محور العقيدة المصرية القديمة، فانعكست بوضوح في فنون العمارة الجنائزية التي خلّدت أسماء الملوك والنبلاء، وجعلت من المقابر معابد للروح وبوابات للخلود. فمن حضارة البداري ودير تاسا في عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بالعصر العتيق وبناء المقابر من الطوب اللبن في أبيدوس، وصولًا إلى عمارة الحجر في منف وسقارة ودهشور وميدوم وأبو صير، تطور فكر المصري القديم من البساطة إلى العظمة، مؤسسًا لمدرسة معمارية خالدة استمرت حتى جبانات القاهرة التاريخية في العصر الإسلامي، مثل الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، التي أصبحت استمرارًا حضاريًا للفكر نفسه في تخليد رموز الأمة وصالحيها.
كان إيمحتب، الوزير والمهندس العبقري في عهد الملك زوسر، أول من غيّر مفهوم المقبرة حين شيّد أول بناء حجري ضخم في التاريخ: مجموعة زوسر الجنائزية بسقارة، متضمنة الهرم المدرج، والمقبرة الجنوبية، والسرداب الملكي. ومن هنا بدأ تطور العمارة الجنائزية نحو الكمال في ميدوم حيث هرم الملك حوني، وفي دهشور حيث شيد الملك سنفرو الهرم المنحني والهرم الأحمر، ثم بلغت القمة في أهرامات الجيزة مع خوفو وخفرع ومنكاورع.
ولم تكن الأهرامات وحدها عنوان الخلود، بل تجاورت معها مقابر الأفراد والنبلاء، التي جسدت روح الحياة اليومية والإدارة والفن المصري. ففي سقارة، تبرز مقابر مرُووكا و كاجمني من كبار رجال الدولة في عهد الملك تيتي، بزخارفها الدقيقة التي تمثل مشاهد الزراعة والصيد والاحتفالات الدينية. وتأتي مقبرة حور محب – قبل أن يصبح ملكًا – لتؤكد دور القائد العسكري ومكانته السياسية، بينما تظل مقبرة بتاح شبسس في أبو صير شاهدًا على رقي الفن والنقوش في الدولة القديمة، ومثالًا للثراء الزخرفي والهندسي. وفي ميدوم، عُثر على مصاطب مقابر الأفراد التي خُططت بعناية حول الهرم، دليلاً على احترام المصريين القدماء لفكرة النظام والتراتبية حتى في عالم الأبدية.
هذا التراث الجنائزي العظيم لم يتوقف بانتهاء العصر الفرعوني، بل ظل ممتدًا في وجدان المصريين حتى بعد الفتح الإسلامي، فظهر في عمارة الجبانات التاريخية في القاهرة، وفي مقدمتها جبانتا الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، اللتان تعكسان استمرار عبقرية المصري في الجمع بين العمارة والروحانية.
في جبانة الإمام الشافعي، تتجاور الرموز الدينية والوطنية والثقافية في لوحة متكاملة من تاريخ مصر. فهي تضم ضريح الإمام الشافعي ومشهده الشهير، ومشهد الطباطبا المنسوب لإبراهيم طباطبا حفيد الإمام علي بن أبي طالب، ، وقبر الإمام ورش، والصحابي عقبة بن عامر، وقبر عمرو بن العاص ويحيى الشبيه، وقبة رقية دودو بنت الأمير رضوان بك من العصر العثماني وكما تضم قبور رموز وطنية تركت أثرًا عميقًا في التاريخ المصري، مثل محمد راتب باشا سردار الجيش المصري في عهد الخديوي إسماعيل، ومحمود سامي البارودي شاعر الثورة العرابية و"رب السيف والقلم"، والأمير يوسف كمال حفيد محمد علي باشا ومؤسس مدرسة الفنون الجميلة عام 1905، إلى جانب أسرة ذو الفقار التي تنتمي إليها الملكة فريدة، وأسرة سعد زغلول زعيم الأمة وقائد ثورة 1919، وكذلك إبراهيم بك الهلباوي أول نقيب للمحامين في مصر وأحد أبرز الشخصيات القانونية والسياسية في مطلع القرن العشرين، الذي مثّل نقلة نوعية في تاريخ المهنة والعمل العام.
أما الإمام ورش، المدفون في تلك المنطقة المباركة، فهو أحد أعلام القراء العشرة، واسمه عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش. وُلد في صعيد مصر وتتلمذ على يد الإمام نافع المدني، واشتهرت روايته للقرآن الكريم في بلاد المغرب والأندلس ومصر، حتى صارت القراءة بروايته من أشهر القراءات في العالم الإسلامي، وتميزت بدقتها وجمال أدائها الصوتي، مما جعلها رمزًا من رموز الثقافة القرآنية المصرية الأصيلة.
أما منطقة السيدة نفيسة، فهي الأخرى مزار تاريخي وروحي يجسد الامتداد الزمني للعمارة المصرية. تضم ضريح السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، التي قدمت إلى مصر في القرن الثاني الهجري وأضحت رمزًا للعطاء والعلم، كما تضم المنطقة عددًا من الربط والمقامات التاريخية منها رباط أم العادل الذي يعود إلى العصر الأيوبي، وقبة الخلفاء العباسيين التي احتوت رفات بعض خلفاء الدولة العباسية الذين لجؤوا إلى مصر، إضافة إلى قبر سيدي موافي الدين أحد الصالحين المعروفين في العصر المملوكي.
وتزدان المنطقة كذلك بقبور رموز الفكر والثقافة والسياسة الحديثة، مثل المهندس مصطفى فهمي باشا أحد كبار رجال الدولة، وعلي باشا مبارك رائد التعليم الحديث وصاحب موسوعة "الخطط التوفيقية"، والسيدة جوهرة خادمة السيدة نفيسة وكاتمة أسرارها، والشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر ورائد التجديد الديني، والشيخ محمد رفعت صاحب الصوت القرآني الخالد الذي ألهب وجدان الأمة بصوته المهيب، إضافة إلى قبري شاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي، اللذين خلّدا اللغة العربية في أبهى صورها.
ولا يمكن الحديث عن هذه المنطقة دون الإشارة إلى المتحف القومي للحضارة المصرية الذي يقع على مقربة منها، ويضم قاعة المومياوات الملكية التي نقلت إليها في موكب مهيب عام 2021 من المتحف المصري بالتحرير، في حدث عالمي جسّد احترام المصريين لملوكهم وأسلافهم كما كان يفعل أجدادهم منذ آلاف السنين. وتضم القاعة مومياوات رمسيس الثاني، وسقنن رع، وأحمس، وتحتمس الثالث، وحتشبسوت، وأمنحتب الثالث، ومرنبتاح وغيرهم من ملوك وملكات مصر العظام الذين شيّدوا أعظم المقابر والمعابد.
وهكذا يكتمل المشهد في منطقة الفسطاط، حيث يلتقي الماضي بالحاضر: من مقابر الملوك في وادي الملوك إلى مومياواتهم في متحف الحضارة، ومن أضرحة الصالحين في الإمام الشافعي والسيدة نفيسة إلى رموز الأدب والفكر الحديث، في تواصل حضاري يؤكد أن المصري ما زال يحفظ عهد الأبدية، ويكرم رموزه كما كرّم ملوكه.

