السيدة نفيسة العلوم سيدة العلم والورع التي أنارت مصر
في قلب القاهرة القديمة، حيث تختلط رائحة التاريخ بصوت المآذن، يتصدر اسم السيدة نفيسة بنت الحسن مشهدًا روحانيًا لا تخطئه العين. فهي ليست فقط واحدة من أبرز سيدات آل البيت، بل رمزٌ للعلم والزهد والرحمة، امرأةٌ اجتمع لها شرف النسب وعمق المعرفة وصدق العبادة، حتى لقّبها أهل عصرها بـ«نفيسة العلوم».
وُلدت السيدة نفيسة في مكة المكرمة عام 145هـ، في بيتٍ يجري فيه نور النبوّة من جهة الحسن والحسين معًا. نشأت منذ طفولتها على حب القرآن والفقه، وحفظت كتاب الله وهي في سن صغيرة، قبل أن تتلقى العلم على أيدي كبار علماء الحرمين. تميزت بذكاء حاد وذاكرة قوية، فصارت مقصداً لطالبي العلم حتى قبل خروجها من المدينة المنورة.
ارتبط اسمها بمصر ارتباطًا خاصًا منذ أن قدمت إليها سنة 193هـ مع زوجها إسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق. لم تكن تعلم حينها أنها ستصبح إحدى أهم الشخصيات الروحية في تاريخ البلاد. ما إن استقرت في حيّ المكان المعروف اليوم بالسيدة نفيسة، حتى التفَّ حولها العلماء والطلاب والنساء والرجال، ينهلون من علمها ويشهدون ورعها وكثرة عبادتها. كانت أبواب بيتها مفتوحة للجميع، وكانت تجلس للدرس والتعليم، تشرح القرآن والحديث، وتفتي في المسائل بفقهٍ متين وقلبٍ يفيض تقوى.
من بين أبرز من ارتبط اسمهم بها الإمام الشافعي. فقد كان يجلّها احترامًا، ويزورها ليستنير بعلمها، ويرسل إليها من يسألها الدعاء. وعندما اشتد عليه المرض في أيامه الأخيرة، أوصى أن يُصلّى عليه في بيتها، فكان ذلك، ثم خرج الناس بجنازته من باب دارها، في مشهد يختصر ما كان لها من مكانة في قلوب العلماء.
لم تكن السيدة نفيسة امرأة علم فحسب، بل كانت مثالًا فريدًا في العبادة والزهد. يُروى أنها ختمت القرآن داخل مصر أكثر من مئة وثمانين مرة، وكانت كثيرة الصيام والقيام، لا تتناول من الدنيا إلا أقل القليل. وإذا جاءها المال وزعته على الفقراء، حتى إنها كانت تحتفظ لنفسها بما يكفي بالكاد ليوم واحد. أما الدعاء، فكان سلاحها الأقوى، وقد اشتهرت باستجابة الدعوات، فصار الناس يقصدونها طلبًا للشفاء والفرج، ورويت عنها كرامات كثيرة بقيت في ذاكرة المصريين جيلاً بعد جيل.
وفي رمضان من عام 208هـ، رحلت السيدة نفيسة عن الدنيا وهي صائمة، لتخرج مصر كلها تشيع ابنة آل البيت التي ملأت قلوبهم نورًا وبيوتهم بركة. دُفنت في بيتها، وهو الموقع الذي تحول لاحقًا إلى مسجد ومقام كبير، يقصده الزائرون حتى اليوم طلبًا للسكينة والطمأنينة.
تظل السيدة نفيسة، رغم مرور قرون على رحيلها، شخصية استثنائية صنعت لنفسها مكانًا خاصًا في التاريخ المصري والإسلامي. ليست مجرد اسم على ضريح، بل روح علم وورع وكرم، ورسالة تقول إن للعلم أثرًا باقياً، وللتقوى قوة لا تزول. إنها بحق «نفيسة العلوم»… نفيسة مصر وقلبها الروحاني النابض عبر الزمن.

