المتحف المصري الكبير منذ حجر الأساس حتى افتتاحه في ذكرى اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون
يُعد المتحف المصري الكبير بجوار أهرامات الجيزة إنجازاً أثرياً ومعمارياً فريداً، يجسد رؤية مصر في حفظ تراثها وصونه وفق أحدث المعايير العلمية العالمية، ليصبح أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، وشاهداً على استمرارية عبقرية المصري القديم في إلهام الحاضر.
تعود فكرة إنشاء المتحف إلى رؤية فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، الذي أدرك الحاجة إلى مؤسسة متحفية جديدة قادرة على استيعاب كنوز الحضارة المصرية بما يليق بقيمتها التاريخية والعلمية. وفي عام 2002، تم وضع حجر الأساس بحضور الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، لتبدأ المرحلة الأولى من تنفيذ المشروع، والتي شملت أعمال الإنشاءات والمعامل المتقدمة للترميم، وقد شهدت السيدة سوزان مبارك افتتاح تلك المعامل التي أصبحت لاحقاً من أهم المراكز العلمية المتخصصة في ترميم وصيانة الآثار على مستوى العالم.
ورغم ما مرّت به البلاد من تحديات سياسية واقتصادية منذ عام 2011، ثم جائحة كورونا التي عطلت كثيراً من المشروعات العالمية، ظل العمل في المتحف متواصلاً بخطوات مدروسة ودقيقة، حتى اكتمل الصرح وافتتح رسمياً في 1 نوفمبر 2025، في حدث يتزامن مع الذكرى الثالثة بعد المئة لاكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون، ذلك الحدث الذي غيّر مسار علم الآثار المصري إلى الأبد.
شهد الافتتاح حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي وقرينته السيدة انتصار السيسي، ونحو ثمانين وفداً دولياً من الملوك والرؤساء وممثلي المنظمات العالمية، ليُسجَّل ذلك اليوم كأحد أبرز المناسبات الثقافية في التاريخ الحديث.
وقد تضمنت الاحتفالية عروضاً فنية ورؤى بصرية جمعت بين الرمزية التاريخية والتكنولوجيا الحديثة، منها عرض "العالم يعزف لحناً واحداً"، وعرض الليزر والطائرات المسيّرة الذي استعرض علاقة تصميم المتحف بمحور الأهرامات ونظرية حزام أوريون، إلى جانب عرض "رحلة سلام في أرض السلام" الذي تناول تسلسل العمارة المصرية من هرم زوسر بسقارة إلى عمارة المتحف الحديث، مع فقرات روحية قبطية وصوفية تؤكد وحدة الروح المصرية عبر العصور.
وفي كلمته، أكد الرئيس السيسي أن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى لحفظ القطع الأثرية، بل شهادة على الإبداع الإنساني المصري الممتد منذ فجر التاريخ، ونتاج جهد أجيال من الأثريين والعلماء والفنيين والعمال المصريين، إضافة إلى التعاون المثمر مع دولة اليابان في التمويل والدعم الفني والتقني.
وخلال الافتتاح، قام الرئيس بتثبيت القطعة الأخيرة التي تحمل اسم مصر في مجسم المتحف إيذاناً بإتمام المشروع، تلاها عرض وثائقي عن مراحل البناء والنقل والترميم، وعروض فنية تناولت سيرة رمسيس الثاني، والآثار الغارقة بالإسكندرية، والدرج العظيم الذي يضم تماثيل الملوك عبر العصور، وصولاً إلى عرض عن الملك توت عنخ آمون ومقتنياته الخالدة، مع مشهد ختامي يجسد النيل رمز الحياة والاستمرارية.
ومن الجوانب العلمية البارزة في هذا المشروع، عمليات نقل الآثار الكبرى التي تمت بأحدث الأساليب الهندسية الدقيقة، ومنها نقل تمثال رمسيس الثاني من ميدان رمسيس عام 2006، وعمود مرنبتاح من القلعة عام 2018، ومركب خوفو من منطقة الأهرامات عام 2021، إلى جانب نقل العجلات الحربية، والأثاث الجنائزي، والتوابيت الملكية، وقناع الملك الذهبي الذي يُعد من أبرز رموز المتحف.
يضم المتحف اليوم المسلة المعلقة الفريدة التي تعود لعهد رمسيس الثاني، والبهو العظيم الذي يتصدره تمثال الملك نفسه، والدرج العظيم الذي يمثل مساراً زمنياً يصعد بالزائر من عصور الدولة القديمة حتى الحديثة. وتضم قاعاته مجموعة الملكة حتب حرس والدة الملك خوفو، وقاعة الملك توت عنخ آمون التي تضم مجموعته الكاملة المكتشفة في 4 نوفمبر 1922، بالإضافة إلى متحف مركب خوفو والكتل الحجرية المنقوشة باسم الملك، وتمثال حابي الذي يرمز للنيل والعطاء والخصب.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير في ذكرى اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون ليس مصادفة زمنية، بل رمزية أثرية عميقة؛ إذ يجتمع في هذا اليوم تتويج الجهد العلمي والحضاري الحديث مع أعظم اكتشاف أثري في القرن الواحد والعشرين، فيتحول المتحف إلى جسرٍ بين الماضي المجيد والمستقبل الواعد، ورسالة إلى العالم بأن مصر لا تزال، وستبقى، مركزاً للحضارة والإنسانية والمعرفة.

