أنباء اليوم
الإثنين 10 نوفمبر 2025 06:10 مـ 19 جمادى أول 1447 هـ
 أنباء اليوم
رئيس التحريرعلى الحوفي

المسلات المصرية المنفية شواهد من تاريخ مصر القديم في عواصم العالم


لم تكن المسلات المصرية مجرد أعمدة حجرية نُصبت لتزيين المعابد، بل كانت رموزاً مقدسة تمثل شعاع الشمس الإلهي وخلود الملك في العالم الآخر. ومع مرور العصور، تحولت هذه التحف المعمارية من رموز دينية في معابد طيبة وهليوبوليس إلى معالم شهيرة تزين ميادين أوروبا وأمريكا وتركيا، بعد أن نُقلت من أرضها الأصلية في ظروف مختلفة، لتبقى قطعاً من التاريخ المصري في منفى بعيد عن موطنها.

في ساحة الكونكورد بباريس، تقف مسلة الأقصر التي تعود إلى عهد الملك رمسيس الثاني، وكانت تزين مدخل معبد الأقصر بالأقصر. أُهديت إلى فرنسا عام 1831 من قبل محمد علي باشا، في إطار علاقاته الدبلوماسية مع الدولة الفرنسية. نقلت المسلة في رحلة بحرية طويلة استغرقت عامين كاملين حتى وصلت إلى باريس، حيث نُصبت عام 1836 وسط احتفال ضخم. يبلغ ارتفاعها نحو 23 متراً وتزن 230 طناً، وما زالت نقوشها التي تمجّد الإله آمون رع واضحة حتى اليوم. ومع ذلك، يشعر كثير من المصريين بأن وجودها خارج بلادها يمثل فقداناً لجزء من روح معبد الأقصر وتاريخه.

أما في لندن، فتقف على ضفاف نهر التايمز مسلة أخرى تعرف باسم إبرة كليوباترا، وهي في الأصل من عهد الملك تحتمس الثالث نحو عام 1450 قبل الميلاد. كانت المسلة قائمة في هليوبوليس، ثم نقلها الرومان إلى الإسكندرية، قبل أن يُهديها محمد علي باشا إلى بريطانيا عام 1819 تكريماً لانتصاراتها العسكرية. لم تُنقل فعلياً إلا بعد ستين عاماً، عام 1877، في رحلة بحرية خطيرة شهدت غرق السفينة المخصصة لنقلها قبل إنقاذها. نُصبت في لندن عام 1878، وأُحيطت بتمثالين حديثين لأبي الهول. ورغم مكانتها كأثر عالمي، فإنها تبقى قطعة مصرية اقتُلعت من موطنها الأصلي.

وفي نيويورك، تنتصب مسلة أخرى تُعرف بالاسم نفسه "إبرة كليوباترا" في سنترال بارك. وهي توأم المسلة اللندنية وتنتمي لعهد تحتمس الثالث أيضاً. كانت في معبد الشمس بهليوبوليس، ثم أُهديت إلى الولايات المتحدة عام 1879 في عهد الخديوي إسماعيل باشا، رغبة في توطيد العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا بعد افتتاح قناة السويس. نقلت المسلة عبر رحلة بحرية شاقة استمرت شهوراً، ووُضعت في مكانها الحالي عام 1881. اليوم، تقف المسلة في قلب مدينة نيويورك الحديثة، شاهدة على حضارة سبقت ناطحات السحاب بآلاف السنين، لكنها في الوقت نفسه تذكرنا بتاريخ من التفريط في إرثٍ لا يُقدَّر بثمن.

أما مدينة روما، فقد جمعت في عهد أباطرتها أكبر عدد من المسلات المصرية خارج مصر، حيث تحتوي على ما يقرب من 13 مسلة فرعونية. أبرزها مسلة الفاتيكان التي تعود إلى رمسيس الثاني، نقلها الإمبراطور كاليجولا من الإسكندرية إلى روما عام 37 ميلادية، وأعيد نصبها في ساحة القديس بطرس عام 1586. كذلك تضم المدينة مسلة لاتيران الأطول بارتفاع يزيد عن 32 متراً، والتي جُلبت من معبد الكرنك في عهد الإمبراطور كونستانتيوس الثاني عام 357 ميلادية. كما توجد مسلة فلامينيو في ساحة الشعب، التي كانت أصلاً من معبد رع بهليوبوليس. هذه المسلات نُقلت كغنائم رمزية من أرض مصر القديمة، تمثل في نظر الرومان مجد الانتصار، لكنها في الحقيقة شواهد من تاريخ مصر استقرت في أرضٍ غريبة عنها.

وفي إسطنبول، تبرز المسلة الثيودوسية التي تعود إلى عهد تحتمس الثالث، وكانت إحدى مسلتي الكرنك بالأقصر. نقلها الإمبراطور ثيودوسيوس الأول إلى القسطنطينية عام 390 ميلادية، ونُصبت في ميدان سباق الخيل (الهيبودروم) حيث ما زالت قائمة حتى اليوم بارتفاع يقارب 19 متراً. نقوشها التي تمجّد الملك المصري لا تزال واضحة رغم مرور أكثر من ألفي عام، لتذكّر بأن جذورها تعود إلى وادي النيل لا إلى ضفاف البوسفور.

إن وجود هذه المسلات في عواصم العالم ليس مجرد تذكير بعظمة الحضارة المصرية، بل هو أيضاً صفحة من التاريخ المشترك بين مصر والعالم، تحمل وجهاً من الإعجاب والتقدير، ووجهاً آخر من الأسى لفقدان رموز مصرية خرجت من أرضها في عصور السيطرة الأجنبية. فكل مسلة من هذه المسلات تحمل حكاية وطنٍ ضحّى بجزء من تاريخه، وحكاية حضارةٍ لم يتوقف نورها رغم أن شواهدها تقف اليوم في منفى بعيد عن موطنها الأم.