ضريح عبد الرحيم باشا الدمرداش إرث من الرحمة والصوفية والخير في قلب القاهرة

في قلب حي العباسية العريق، حيث تتعانق المآذن مع صروح العلم والطب، يقف ضريح عبد الرحيم باشا الدمرداش داخل مستشفى الدمرداش الجامعي، وبالقرب من مسجد الدمرداش المحمدي وقصره التاريخي، في مشهد يختزل قصة رجل جمع بين الثراء والإيمان، بين التصوف والخير، وبين حب الناس وخدمة الوطن. لم يكن اختيار موقع الضريح محض صدفة، بل جاء تنفيذًا لوصيته التي أوصى فيها بأن يُدفن إلى جوار المستشفى والمسجد اللذين أسّسهما، ليظل قريبًا من الفقراء والمرضى الذين كان يعتبر خدمتهم طريقًا إلى الله.
كان عبد الرحيم باشا الدمرداش من رجال مصر النبلاء في النصف الأول من القرن العشرين، جمع بين الوجاهة الاجتماعية والروح الصوفية الخالصة. وُلد في أسرة مصرية عريقة عُرفت بالكرم والورع، ونشأ على حب الخير ومساعدة الناس، وتأثر منذ شبابه بالطرق الصوفية التي كانت منتشرة آنذاك في القاهرة، فاختار أن يسير على نهجها في الزهد والكرم والتسامح. لم يكن تصوفه مجرد انتماء لطريقة أو حلقة ذكر، بل كان سلوكًا عمليًا في حياته اليومية، تجلى في أعماله الخيرية وإحسانه الدائم.
آمن عبد الرحيم باشا بأن الصوفي الحق هو من يخدم الخلق حبًا في الخالق، فحوّل فكره الصوفي إلى واقع ملموس حين أنشأ مستشفى الدمرداش عام 1928، ليكون وقفًا خيريًا لعلاج الفقراء بالمجان، دون تمييز أو مقابل. رأى في الطب رسالة إنسانية، وفي شفاء المريض صدقة جارية تمتد ثوابها إلى يوم الدين. ولذلك لم يكتفِ بتشييد المستشفى، بل أوقف له أراضيه وأملاكه لضمان استمراره بعد وفاته، وأشرف بنفسه على كل تفاصيله، واضعًا على جدرانه شعارًا غير مكتوب مفاده: “من أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا.”
وإلى جانب هذا الصرح الطبي، أنشأ مسجد الدمرداش المحمدي الذي حمل طابعًا روحانيًا خاصًا. كان المسجد منارة للعبادة والعلم، ومكانًا يجتمع فيه المريدون والعارفون بالله لذكره وتلاوة القرآن. انتشرت في المسجد حلقات الذكر الصوفي، وامتزجت فيه الأناشيد الروحية بنفحات الإيمان، فكان مقصدًا للزائرين والسالكين في الطريق إلى الله. حمل المسجد على جدرانه روح المدرسة الدمرداشية التي تمزج بين العبادة والعمل، بين التقوى والعلم، وبين صفاء الروح وعطاء اليد.
أما الضريح، فهو قلب هذه المنظومة الخيرية والروحية. يقع داخل المستشفى، تحيط به حديقة هادئة تفيض بالسكينة، وتعلوه قبة خضراء تتلألأ في ضوء النهار. نُقشت على جدرانه آيات قرآنية تتحدث عن الصدقة والرحمة، وكأن المكان كله يسبّح باسم من أسّسه. هنا يرقد عبد الرحيم باشا الدمرداش، الرجل الذي عاش صوفيًا ومات على مبدأ الإحسان.
وما زال قصره القريب من المسجد والمستشفى شاهدًا على ماضيه المشرق، ذلك القصر الذي كان ملتقى للعلماء والمتصوفة ورجال الدولة، يجتمعون فيه في ليالٍ من الذكر والنقاشات الفكرية الرفيعة. لم يكن القصر رمزًا للبذخ، بل بيتًا عامرًا بالثقافة والروحانية، يختزل فلسفة صاحبه في الجمع بين الدنيا والدين، بين الجمال المادي والنور المعنوي.
رحل عبد الرحيم باشا الدمرداش، لكن اسمه بقي خالدًا في ضمائر المصريين، ليس فقط كمؤسس لمستشفى ومسجد، بل كرمز للتصوف العملي الذي جعل من الإحسان عبادة ومن خدمة الناس طريقًا إلى الجنة. بقيت أعماله شاهدة على أن التصوف في جوهره ليس انعزالًا عن الحياة، بل انخراطًا فيها بروح من الرحمة والتواضع.
وهكذا، فإن ضريح عبد الرحيم باشا الدمرداش ليس مجرد مدفن لرجل من كبار المحسنين، بل هو مزار روحي وتاريخي يذكّر كل من يمر به بأن الخير صدًى للروح، وأن التصوف الحق لا يُختصر في الزهد والعبادة فحسب، بل في العطاء الدائم، والرحمة بالخلق، والإخلاص في العمل. فهنا، في قلب القاهرة، يرقد صوفي آمن بأن القرب من الله لا يتحقق إلا بخدمة عباده.