الجمعة 26 أبريل 2024 02:17 صـ 16 شوال 1445 هـ
 أنباء اليوم المصرية
رئيس التحريرعلى الحوفي

جانب من مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية الأسبق

 الفريق أول محمد أحمد صادق  وزير الحربية الأسبق
الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية الأسبق

(فتح ثغرات فى الساتر الترابى)
لم يكن ممكنا أن تنجح عمليه اقتحام قناة السويس كمانع مائى والسيطرة على خط بارليف دون التوصل إلى حل لمشكله الساتر الترابى. وكان عامل الزمن واحدا من أهم العوامل التى يجب وضعها فى الاعتبار.

والقناة كمانع مائى لها أجناب حادة الميل ومكسوة بالدبش والحجارة لمنع انهيار الأتربة والرمال وبما يؤثر على عمق المجرى الملاحى واتساع القناة طلمبات ، وعندما خطط العدو لإنشاء خط بارليف أقام ساترا ترابيا يمتد من جنوب بور سعيد شمالا حتى السويس جنوبا بامتداد القناة مستخدما ناتج عمليات حفر القناة ورمال سيناء ، وبمرور الوقت كان الساتر يزداد ارتفاعا ، وبعد وقف إطلاق النار فى أغسطس 1970 نشط العدو لزيادة ارتفاع الساتر حتى وصل فى بعض المناطق إلى 26 مترا.

وحرص المهندسون الإسرائيليون على إزاحة الساتر إلى الأمام حتى اصبح ملامسا للحافة العليا لشاطئ القناة ، وأصبح ميل الساتر الترابى هو نفس ميل شاطئ القناة ، أى لم تكن هناك أية أكتاف أو مصاطب تفصل بين الساتر الترابى وشاطئ القناة ، وبلغت درجة الميل ما يتراوح بين 45 ، 65 درجة طبقا لطبيعة التربة فى قطاعات القناة المختلفة.

وعلى امتداد هذا الساتر الترابى أقام الإسرائيليون خطا دفاعيا حصينا (خط بارليف) ، يتكون من 35 نقطه حصينة تتراوح المسافات فيما بينها بين كيلو متر واحد فى الاتجاهات الهامة ، وخمسة كيلو مترات فى باقى الاتجاهات ، و وصلت هذه المسافة فى منطقه البحيرات إلى ما يتراوح بين عشرة وخمس عشرة كيلو مترا ، والساتر الترابى بهذه الصورة جعل اقتحام قناة السويس عملية بالغة التعقيد فى نظر المتفائلين ومستحيلة فى نظر المتشائمين.

أما الأصدقاء السوفييت فكانت وجهة نظرهم أن الأمر يتطلب استخدام القنابل الذرية التكتيكية. وكنت على اقتناع أنهم يقولون ذلك لإحباط همة القيادة العامة ومنعها من التفكير فى الهجوم ، لتظل الأوضاع كما هى ، هذه الأوضاع التى تتيح لهم الضغط القوى المتواصل لمزيد من النفوذ إلى أن تسقط مصر فى قبضة الاتحاد السوفييتى.

وطلبت من سلاح المهندسين مواصلة العمل للبحث عن حل. وكنت دائم المتابعة لكل الاقتراحات والحلول المطروحة. ولم يكن أمامنا سوى أن نعمل ونجتهد تاركين التوصل إلى النجاح والتوفيق فى العثور على حل لهذه المشكلة لإرادة الله.

وكان من الضرورى فتح ثغرات فى الساتر الترابى حتى تتمكن الدبابات والأسلحة الثقيلة من الوصول إلى شرق هذا الساتر لدعم رؤوس الكبارى. وكانت الخطط التى ساهمت فى وضعها والتى استقر عليها الرأى أن تهاجم المشاة بأن تعبر القناة بالقوارب وتتسلق الساتر الترابى وتهاجم مواقع خط بارليف وتستولى عليها أو تحاصرها وتواصل تقدمها لتنشئ خمسة رؤوس كبارى .

فى نفس الوقت يبدأ المهندسون عملهم وبعد أن تتوفر لهم الحماية بعبور المشاة ، لإنشاء كبارى الاقتحام والمعديات ، وبعد فتح ممرات أو ثغرات فى الساتر الترابى تعبر الدبابات وباقى الأسلحة الثقيلة لتدعم رؤوس الكبارى وتصد هجمات العدو المضادة التى لن تتأخر طويلا ، وكان المتوقع أن يشن العدو أول هجماته خلال ما يتراوح بين 15 ، 30 دقيقه أما الهجوم بالاحتياطى المدرع فسيبدأ خلال ساعتين ، وقبل أن يبدأ هذا الهجوم كان من الضرورى وصول الدبابات إلى شرق القناة. وكان صمود رؤوس الكبارى يتوقف على وصول الدبابات ، وهذا كله يتوقف على النجاح فى التوصل إلى حل لمشكلة الساتر الترابى.

وتضمنت تجارب فتح ثغرات فى الساتر الترابى استخدام التفجير وأدوات الحفر الميكانيكية ، ولم تنجح هذه المحاولات لطبيعة الساتر الترابى المتهايلة ، فقد كانت الأتربة والرمال تتهايل داخل الحفر التى تنتج عن التفجير أو الحفر. وبدا واضحا أن أى من الوسيلتين مكلفة ، كما أن التفجير سيؤدى بالضرورة إلى خسائر فى صفوف أفراد المهندسين القائمين على العمل ، والأهم صعوبة التنسيق بين المشاة الذين يواصلون التدفق إلى شرق القناة وعمليات التفجير التى يقوم بها المهندسون.

ثبت لنا أن فتح الثغرات سواء بالتفجير أو بالوسائل الميكانيكية يتطلب أعدادا كبيرة من المهندسين. وإذا وضعنا فى الاعتبار أن هذا العمل سيتم تحت ضغط العدو ، لتأكدنا من محدودية النجاح الذى يمكن أن يتحقق وكنت قد طلبت من المسئولين عن الصناعة الحربية البحث عن وسيله أو ابتكار وسيلة للتغلب على هذه المشكلة وتوالت الاجتماعات والبحوث والتجارب خاصة حول صاروخ جديد ولكن كان النجاح محدودا.

واقترح أحد المهندسين من واقع خبرته فى العمل بالسد العالى استخدام طلمبات المياه فى فتح ثغرات ، وبدأت أولى التجارب فى سبتمبر 1969 ، وخلال عامى 1970 ، 1971 أي بعد أن بدأ العمل الجدى لمعركة هجومية ، تم اتقان أسلوب استخدام طلمبات المياه ، ونجحت قيادة سلاح المهندسين فى تدريب الوحدات عليه ، وخلال التدريب تم اختصار الوقت المطلوب لفتح ثغرة إلى ما يتراوح بين 3 ، 5 ساعات وفقا لارتفاع وسمك الساتر الترابى فى المنطقة و وفقا للحسابات التى تمت تبين لنا أن فتح ثغرة واحدة يحتاج إلى خمس طلمبات ، وكان تصورنا أن الخطة تقتضى فتح 80 ثغرة ، لذا كان المطلوب توفير 400 طلمبة بالإضافة إلى 50 طلمبة احتياطية.
وكلفت سلاح المهندسين بدراسة الآسواق العالمية لمعرفة أفضل شركة منتجة للطلمبات ، وذلك قبل بدء عملية التعاقد. و وقع الاختيار على طراز إنجليزى الصنع ، وتم التعاقد.

وفى أوائل فبراير 1972 دعوت لاجتماع محدود بمكتبى فى السابعة مساء حضره اللواء مهندس جمال محمد على مدير سلاح المهندسين وعدد من كبار القادة بالسلاح لمراجعة موقف مهمات ومعدات اقتحام القناة ، وكيفية استكمال النقص ، ولما كانت إحدى الدول العربية قد أبدت استعدادها للتعاقد على شراء نوعية حديثة من كبارى الاقتحام الثقيلة التى تصنع فى المانيا والتى تختلف عن الكبارى التى حصلنا عليها من الاتحاد السوفييتى خلال زيارتى لها ، فقد عرضت الأمر على اللواء جمال محمد على فأبدى ترحيبه وقال إنه كان يتمنى لو امتلك سلاح المهندسين ولو عدد محدود من هذه الكبارى التى قرأ عنها وقد اقترح معاينة هذه الكبارى أولا قبل التعاقد ، و وافقت على طلبه السفر لالمانيا لإجراء هذه المعاينة وعندما اقترح أن يسافر معه عدد من المهندسين وافقته على الفور.

كان من المقرر خلال وجود وفد المهندسين العسكريين فى أوروبا أن يغتنموا الفرصة لتوقيع عده عقود سبق الاتفاق عليها للحصول على مهمات وقطع غيار لتصنيع عدد من الكبارى محليا.

قد وافقت على مد فترة زيارة الوفد لمده أسبوع حتى يتمكن من تنفيذ المهام التى سافر من أجلها سواء فى المانيا أو فرنسا أو إنجلترا. بعدها تبينت تعذر سفر اللواء جمال محمد على لاعتبارات تتعلق بالأمن.

فى نفس الوقت كان هناك وفد آخر برئاسة اللواء مهندس جمال صدقى وعضوية كل من المهندس عادل جزارين وعثمان الحضرى سيزور أوروبا لتنفيذ تكليفات أخرى بعضها لدى نفس الشركة التى تقوم بتصنيع الكبارى ، لذا اقترحت أن ينضم وفد ضباط سلاح المهندسين (وكان من بين أعضائه اللواء مهندس الحسينى عبدالسلام) إلى تلك اللجنة.
وخلال الأسبوع الأخير من شهر مارس سافر الوفد ، على أن يقوم اللواء مهندس الحسينى عبدالسلام بمعاينة الكوبرى المطلوب شراؤه ، ودراسة كل ما يتعلق به من معلومات وتفصيلات فنية وذلك خلال أسبوع ، وخلال زيارته للشركة المنتجة واصل أداء المهمة المكلف بها وفقا لما هو مخطط. واغتنم رئيس الشركة الألمانية فرصة وجود الوفد فاقترح عليهم زيارة معرض منتجات الشركة من المعدات والعربات المختلفة ، ولم يمانع الوفد فى تلبيه الدعوة.
كانت الأقدار أو كانت إرادة الله تدفع الأمور فى اتجاه يخدم هدفنا.
فخلال تفقد اللواء الحسينى عبدالسلام لمعرض المنتجات لمح فى نهاية أرض المعرض عربة لإطفاء الحرائق مزودة بطلمبة شكلها غير مألوف مقارنة بالموديلات الأخرى. وهذا الشكل غير المألوف هو الذى دفعه للسؤال عن هذه الطلمبة والاستئذان فى معاينتها مبررا ذلك للمسئولين بالشركة بدور المهندسين العسكريين فى إطفاء الحرائق التى تنشب فى القواعد الجوية والمطارات حتى لايلفت هذا الاهتمام نظر أى منهم.
وأوضح المسئولون بالشركة أن هذه الطلمبة من النوع التوربينى وتعمل بمحرك نفاث وأنها من الإنتاج الحديث الذى لم يتم تسويقه تجاريا على نطاق واسع. كان الوفد يتابع الشرح ، ويتبادلون النظرات ، لقد كانوا أمام الطلمبة الحلم ، أو أمام معجزة حقيقية ، ولم يكونوا يدرون أنها أراده الله التى رتبت الأمور لتمضى إلى هذه النتيجة.
وكان كل من جمال صدقى والحسينى عبدالسلام يعلم أننا استكملنا شراء الطلمبات الإنجليزية وأنها كلها موجودة بالمخازن ، ولكن القوات المسلحة فى حاجة إلى هذه الطلمبات التوربينية التى تنتج الواحده منها 240 مترا مكعبا فى الساعة فى حين أن الطلمبة الإنجليزية كانت تنتج 78 مترا مكعبا خلال نفس الفترة ، أى أن المضخة الألمانية التوربينية تنتج أكثر من ثلاثة أمثال ما تنتجه المضخة الإنجليزية خلال نفس الفترة
ومن خلال التجارب التى سبق أن أجريناها على المضخة الإنجليزية تبين لنا أن كل متر مكعب من المياه يزيح مترا مكعبا من الأتربة والرمال ، وبالتالى فإن استخدام الطلمبات الجديدة سيوفر ثلثى الوقت الذى سبق تقديره كما أنه يمكن استخدام طلمبتين لفتح الثغرة بدلا من خمس طلمبات.
وكتب المهندس الحسيني عبدالسلام تقريرا عن هذه الطلمبة وأرسله لمدير سلاح المهندسين مع اللواء مهندس جمال صدقى الذى كان من المقرر أن يسبقه فى العودة إلى القاهرة ، وفى هذا التقرير أوضح كل المعلومات والفائدة المحققة التى ستعود على خطط وأساليب فتح الثغرات فى الساتر الترابى ، وأن استخدام المهندسين للطلمبات الألمانية سيفتح الباب لإعادة الحسابات فيما يتعلق بخطط عمل سلاح المهندسين لا بفتح الثغرات فقط بل وفيما سيتعلق بكل الخطط المرتبطة بخطة اقتحام قناة السويس.
ولم يكتف بذلك بل أشار إلى تفضيل استخدام هذا النوع من الطلمبات فى الثغرات المخصصة للمعابر الرئيسية فى قطاعات فرق النسق الأول ، وأنه يمكن تخصيص الطلمبات الإنجليزية فى ثغرات الاتجاهات الثانوية والمعابر الخداعية.
وعندما قرأ اللواء مهندس جمال صدقى التقرير شعر بأهميته ، لذا بدلا من أن يسلمه للواء مهندس جمال محمد على مدير سلاح المهندسين قرر أن يسلمه لى شخصيا كسبا للوقت واختصارا للدورة التى يمكن أن يستغرقها هذا التقرير الهام للغاية حتى يصل إلى الوزير. وشكرت للواء مهندس جمال صدقى ما فعل بعد أن قرأت التقرير واستوعبت ما فيه وشعرت بالتقدير للواء مهندس الحسينى عبدالسلام وتوجهت للمولى العلى القدير بكل الشكر والحمد.
وفى نفس اليوم كنت أطلب مندوبا من شركة "دويتس" الألمانية بالقاهرة لمخاطبة الشركة بألمانيا لشحن طلمبتين على أول طائرة متجه إلى القاهرة ، وكانت علاقاتى مع الألمان قوية ووثيقة حيث سبق لى العمل هناك كملحق حربى ، ورأيت أن استثمرها للحصول بأسرع وقت على هاتين الطلمبتين لتجربتهما قبل التعاقد على احتياجاتنا منها. وعندما عاد اللواء مهندس الحسينى عبدالسلام من مهمته بالخارج وجد الطلمبتين فى انتظاره ليبدأ تجربتهما على الفور.
وبالطبع كان متوقعا منه ألا يصدق ما يراه ، وتمت التجارب بنجاح ، وأعقب ذلك إجراء تجربة على ساتر ترابى مماثل بالضبط للساتر الاسرائيلى فى العمق والارتفاع تم إنشاؤه على ترعه الخطاطبة بحضورى وحضور كل من اللواء مهندس جمال محمد على مدير المهندسين واللواء مهندس عبدالستار مجاهد نائب المدير.
ونجحت التجربة نجاحا فاق كل توقع ، وقد رأيت الاحتفاظ بالأمر سرا حتى لا يتسرب إلى العدو ، وبالتالى أحطته بأسوار عالية وحرصت مع القيادة العامة للقوات المسلحة على كتمانه.
وإمعانا فى السرية أمرت أن يظل السر محصورا فى عدد محدود من الأفراد و وضعت من القواعد ما يمنع وصوله إلى غير المشتركين فى العمل من أفراد القوات المسلحة ، ولم يعلم به المستشارون والخبراء السوفييت الذين كانوا موجودين آنذاك فى القوات المسلحة.
وجرت بعد ذلك عدة خطوات أحيطت بنفس القدر من السرية ، فعندما قررنا الحصول على هذه الطلمبات ذات المحرك النفاث وقع الاختيار على شركه (دويتس) الالمانيه التى وافقت على إمداد شركات مقاولات مدنية تعمل فى دولة عربية بالطلمبات بالمواصفات المطلوبة. ولم نحصل على هذه الطلمبات من المانيا مباشرة بل عن طريق دولة أوروبية أخرى وتحت ستار حاجة إحدى الدول العربية لمثل هذه الطلمبات لحفر أنفاق فى إطار خطة عمرانية شاملة.
وقد تقرر شراء هذه الطلمبات بأعداد قليلة وعلى دفعات حتى لا نلفت النظر إلى هذه الصفقة ، وجرى إنشاء مجموعات خاصة مدربة بسلاح المهندسين لإدارة هذه الطلمبات واستخدامها والتدريب عليها وعلى نماذج مماثلة للساتر الترابى الإسرائيلى على الضفة الشرقية للقناة وتحت ظروف المعركة.
وقد أقيمت هذه النماذج وجرى هذا التدريب فى عمق مصر وبعيدا عن متناول العدو وعن كل من ليس له علاقة بالأمر. ولم تعلم القوات المسلحة بهذا السر أو بوجود هذا الحل الذى توصلنا إليه لمشكلة الساتر الترابى. وظلت هناك محاولات مستمرة للبحث عن حل لإيهام الجميع أننا مازلنا بعيدين عن حل هذه المشكلة.
ولم يكن ذلك هو السر الوحيد الذى خططنا للاحتفاظ به بعيدا عن متناول العدو لمفاجأته به فى يوم الاقتحام ، بل كانت هناك أسرار أخرى كثيرة.
وليس لدى الآن وأنا أتذكر هذه المرحلة سوى الشعور بالعرفان والتقدير لكل القادة والضباط والرجال الذين حافظوا على هذا السر طوال هذه الفترة ، والذين شاركوا بهذا الكتمان فى تحقيق عامل المفاجأة التى كانت أحد أهم أسباب نجاح المشهد الافتتاحى الرائع لمعركة 6 أكتوبر.

موضوعات متعلقة