الجمعة 26 أبريل 2024 10:16 صـ 17 شوال 1445 هـ
 أنباء اليوم المصرية
رئيس التحريرعلى الحوفي

”دأب الصالحين محاسبة النفس ومداومة العمل” بقلم - فضيلة الشيخ عبدالمنعم الطاهر

الشيخ/ عبدالمنعم الطاهر
الشيخ/ عبدالمنعم الطاهر

الحمد لله، الحمد لله الواحد القهَّار، يقلِّب الليل والنهار، سبحانه وبحمده، جعَل مواقيتَ للأعمال، ومقاديرَ للأعمار، سخَّر الشمس والقمر، يجريان بحسبان وبمقدار، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة الصدق واليقين والإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه ربُّه بالرحمة والهدى، فوضع عن الأمة الأغلال والآصار، سلم الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم القرار.

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أنَّه لا تقوم الدنيا إلا بقيام الدِّين، ولا تُنال العزةُ إلا بالخضوع لربِّ العالمينَ، ولا يصح الدِّين إلا بالإخلاص واتباع سيِّد المرسَلِينَ، ومحاسَبة النفس -عبادَ اللهِ- هي طريق السالكين، والتقوى هي زاد المؤمنين، والعمل الصالح هو رأس مال الفائزين، مَنْ حاسَب في الدنيا نفسَه خفَّ في القيامة حسابه، وصح عن السؤال جوابه، وحَسُنَ مُنقَلَبُه ومآبُه، ومَنْ لم يَحاسِب نفسَه دامت حسراتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وأحاطت به خطيئاتُه وسيئاتُه؛ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزَّلْزَلَةِ: 6-8].

وكل عام ينقضي يُبعِد عن الدنيا والدُّور، ويُقرِّب من الآخرة والقبور، ويُبعِد عن التمتُّع بالأهل والأولاد والأموال، ويُقرِّب من الانفراد بالأعمال؛ (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الْجُمُعَةِ: 8].

معاشرَ المسلمينَ: حقٌّ على مَنْ أراد الخيرَ لنفسه الوقفةُ الصادقةُ مع النفس محاسبةً ومساءلةً، فوالله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتُجزَوُنَّ بما كنتم تعملون، فجنة للمطيعين، ونار للعاصين؛ (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فُصِّلَتْ: 40]

عبادَ اللهِ: إنَّ الزمانَ وتقلُّباتِه أنصحُ المؤدِّبينَ، وإنَّ الدهرَ بقوارعِه أفصحُ المتكلِّمينَ، فانتبِهوا -رحمكم الله- بإيقاظه، واعتبِروا بألفاظه، كما ورَد في الأثر: "أربعةٌ من الشقاء: جمودُ العينِ، وقسوةُ القلبِ، وطولُ الأملِ، والحرصُ على الدنيا" أخرجه البزار.

معاشرَ الأحبةِ: في الشباب مَنْ غرَّه شبابُه؛ فنسي فقدَ الأقران، وغفَل عن سرعة المفاجآت، وتعلَّق بالأماني، وما الأماني إلَّا أوهامُ الكُسالى، وأفكار اللَّاهين، وما الاعتماد عليها إلا بضائع الحمقى، ورؤوس أموال المفاليس، والتمنِّي والتسويف إضاعةٌ للحاضر والمستقبل.

أيها الإخوةُ: وفي أهل العلم مَنْ جَدَّ في التحصيل، ولم يجدَّ في العمل، أُعطُوا علومًا فصرفوها في المُكاثَرات والمجادَلات، والعلوّ على الأقران، يُخرِّق دِينَه مِنْ أجلِ ترقيعِ دُنياه، لا يتحاشى غِيبةً، ولا يَسلَم من حسدٍ، وفي أهل الدنيا مَنْ صرَف أموالَه في الشهوات والمحرَّمات، وأشدُّ هؤلاء مَنْ كسَب مالًا فأدخَلَه النارَ، وَوَرِثَه مِنْ بعدِه قومٌ صالحون، عَمِلُوا فيه بطاعة الله، فأدخَلَهم الجنةَ.

أيها المسلمون: عجيب حال مَنْ يُوقِن بالموت ثم ينساهُ، ويتحقَّق من الضرر ثم يَغشاه، يَخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن يخشاه، يغترّ بالصحة ويَنسى السَّقَم، ويَفرَح بالعافية ولا يتذكَّر الألمَ، يزهو بالشباب ويغفُل عن الهَرَم، يهتمّ بالعِلْم ويُهمِل العملَ، يَحرِص على العاجل ولا يُفكِّر في الآجِل، يطولُ عُمرُهُ وتكثُر ذنوبُه، يبيَّض شعرُه ويُظلِم قلبُه، القلوبُ المريضةُ يَعِزّ شفاؤها، والعيون التي تكتحِل بالحرام يقلّ بكاؤها، وإذا غرقت الجوارحُ في الشهوات فحَقٌّ عَزاؤُها.

وإذا كان الأمر كذلك -أيها الأحبةُ- فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزوَّد من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعدَ الموتِ مِنْ مُستعتَب، ولا بعدَ الدنيا سوى الجنة أو النار، ومَنْ أصلَح ما بينَه وبينَ ربِّه كَفَاهُ ربُّه ما بينَه وبينَ الناس، ومَنْ صدَق في سَرِيرَتِه حَسُنَتْ علانيتُه، ومَنْ عَمِلَ لآخرته كفاهُ اللهُ أمرَ الدنيا.

أيها المسلمون: والمحاسَبُة الصادقةُ ما أَوْرَثَتْ عملًا، فعليكَ -يا عبدَ اللهِ- أن تستدركَ ما فات بما بقي، فتعيش ساعتَكَ ويومَكَ، ولا تشتغِلْ بندمٍ وتحسُّرٍ يَصرِفُكَ عن العمل، واعلم أن مَنْ أَصلَح ما بَقِيَ غُفِرَ له ما مضى، ومَنْ أساء فيما بَقِيَ أُخِذَ بما مضى وبما بقي، والموتُ يأتي بغتةً، فأعطِ كلَّ لحظةٍ حقَّها، وكلَّ نَفَس قيمتَه، فالأيَّامُ مَطَايَا، والأنفاسُ خُطُواتٌ، والصالحاتُ هي رؤوسُ الأموال، والربحُ جناتُ عدنٍ، والخسارةُ نارٌ تلظَّى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت -يا عبدَ اللهِ- حسيبُ نفسك.

فاتقوا الله -رحمكم الله-، وتزوَّدُوا في دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدًا؛ فمن اتقى الله نصح نفسه، وقدم توبته، وقاوم شهوته.

عبادَ اللهِ: لا يرجو القبولَ إلا مؤمنٌ بربه وبآياته، عابدٌ مُخلِصٌ، وَجِلٌ مشفقٌ، يستصغِر عباداتِه، ويستقلّ طاعاتِه، مُدرِك لجلال الله وعظمته، وعِلْمه وإحاطته، رقيبٌ في شعائره ومشاعره.

اللهَ اللهَ في أنفسكم عبادَ اللهِ؛ إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب في إخلاصها، فالإخلاص -عباد الله وبإذن الله- يُورِثَ القوةَ في الحق، ويُورث الصبر والمثابرة والمداومة، بالإخلاص يتضاعف فضلُ الله، ويَعظُم أجرُه وثوابُه، بل الإخلاص يجعل المباحاتِ طاعاتٍ وعباداتٍ وقرباتٍ؛ ومِنْ ثَمَّ تكون حياةُ العبد كلها لله؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)[الْأَنْعَامِ: 162-163].

ولا تنسَ -رعاكَ اللهُ- وأنت تتحرَّى الصالحات المداوَمةَ عليها، ففي الخبر الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم-: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل"(أخرجه البخاري في كتاب القصد والمداومة على العمل)، وقد كان عمله -عليه الصلاة والسلام- ديمة، يقول الإمام النوويّ -رحمه الله-: "بدوام القليل تستمر الطاعة، ويستمر الذِّكْر والمراقبة والإخلاص، والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم، حتى يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة"، ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "مُداوِم الخيرِ مُلازِم لخدمة مولاه، وليس مَنْ لازَم البابَ في وقت كمن لازَم يومًا كاملًا ثم انقطع".

وبعدُ عبادَ اللهِ: الموفَّقون للعمل الصالحون ذوو قلوبٍ مخلصةٍ، وتوحيدٍ خالصٍ، وهممٍ جادَّةٍ، مُوفُونَ بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثَرة، يَسلُكون مسالكَ الإيثار، يرجون رحمةَ الله ويخافون عذابه؛ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 57].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[غَافِرٍ: 18-20].

، أيها المسلمون: إنَّ في قوارع الدهر لَعِبرًا، وإنَّ في حوادث الأيام لَمُزدجرًا، أوقاتٌ تُطوى فتُخرِب عامرًا، وتُعمِر قَفْرًا، تُعير مرةً، وتَسلُب أخرى، فاحذروا زخارفَها المضلةَ، مَنْ تكثَّر منها لم يزدَدْ من الله إلا بُعدًا، واعلموا -رحمكم الله- أنَّ مَنْ لم يشغل نفسَه بالحق تشاغلَتْ بالباطل، والإناء إن لم تَشغَلْه بالماء شغَلَه الهواءُ، فمَنْ عزَم على حفظ ما بقي له من سُويعات عُمرِه فلا يُصاحِب إلا الجادِّينَ العاملينَ، الأخيارَ النابهينَ، البررةَ الصالحينَ، الذين يَحرِصون على أوقاتهم أشدَّ مِنْ حِرْصِ الشحيحِ على دراهمه ودنانيره.

جِدُّوا في العمل، واعتبِروا بما سلَف، فالفرصُ تَفُوتُ، والأجلُ موقوتٌ، والإقامةُ محدودةٌ، والأيامُ معدودةٌ، (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْمُنَافِقُونَ: 11].

أيها الإخوةُ المسلمون: الغفلةُ رأسُ الخطايا، يقول الحسن البصريّ -رحمه الله-: "الحسنةُ نورٌ في القلب، وقوةٌ في البدن، والسيئةُ ظلمةٌ في القلب، ووهنٌ في البدن، وظلمُ المعصيةِ يُطفئ نورَ الطاعة".

ألَا فاتقوا الله -رحمكم الله- واحذروا وحاسِبوا؛ كيف بمن عرَف اللهَ فلم يؤدِّ حقَّه؟! وكيف بمَنْ يدَّعي محبةَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فلم يعمل بسُنَّته؟! وكيف بمَنْ يقرأُ القرآنَ ولم يعمل به؟ تقلَّبَ في نعم الله فلم يشكرها؟! لم يتخذ الشيطان عدوا؟! لم يعمل للجَنَّة، ولم يهرُب من النار، لم يستعدَّ للموت، اشتَغَل بعيوب الناس، وغفَل عن عيوب نفسه؟! هذا وأمثاله في غمرةٍ ساهُون، تَستدرِجُهم النعمُ، ويُطغيهم الغنى، ويُلهيهم الأملُ، استحوذ عليهم الشيطانُ فأنساهم ذكرَ الله، ولسوف يندمون إن لم يتوبوا، ولاتَ ساعة مندم.