تامر المنشاوي يكتب لحظة استعادة بعض الشواهد والتركيبات التراثية في الخالدين

في يوم 13 ديسمبر 2025، كنت أول باحث في مجال التراث والآثار وكوني حاصل علي ماجستير في الاثار المصريه والذي أُتيح له دخول مقابر الخالدين، لمشاهدة الواقع الفعلي لبداية تجميع التراكيب الجنائزية التراثية المنقولة من مقابرها الأصلية، في لحظة فارقة من تاريخ صون الذاكرة الوطنية.
في ذلك التوقيت، كانت التراكيب لا تزال في مرحلة التجميع، وتُجرى أعمال ترميم دقيقة لعناصرها الفنية، في مشهد يعكس مجهودًا استثنائيًا بذله المرممون المصريون بقيادة المهندس أحمد فتحي بشركة «إبداع»، وفريق المرممين الذين قاموا بعمل جبار لإعادة كل عنصر إلى أصله، والحفاظ على الطابع الفني والروح التاريخية لهذه التراكيب.
التراكيب التراثية التي تم نقلها من مناطق الإمام الشافعي والسيدة نفيسة لم تكن مجرد أحجار منقولة، بل شواهد حية على تاريخ رموز أثرت في وجدان الأمة. وقد لفت انتباهي بشكل خاص جماليات التراكيب التي تضم «الكرسي» و بعض ايات لقرآن الكريم وآيات الحفظ والحماية والتحصين، وهي عناصر تحمل دلالات روحية وفنية عميقة، تعكس فلسفة العمارة الجنائزية المصرية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
شاهدت عن قرب بداية أعمال تركيبة كلزار هانم، واستكمالها وترميم عناصرها الفنية، وكذلك تركيبة ناظر الجهادية إسماعيل سليم باشا، التي لم تكن قد أُعيد تنصيبها بشكل كامل بعد. كما وقفت أمام تركيبة محمود باشا الفلكي، والمحسنة الكبيرة عائشة هانم صديقة، وشعرت بسعادة حقيقية لوجودهما ضمن هذا المشروع، بعد ترميمهما والحفاظ عليهما بما يليق بمكانتهما التاريخية.
كما شاهدت تركيبة أمير الشعراء أحمد شوقي، إلى جانب تركيبة زهرة هانم فاضل التي لم تكن قد استُكملت بعد، وتركيبة يكن، وتركيبات عائلة العظم السورية، ومن بينها تركيبة حقي العظم، أول رئيس وزراء في تاريخ سوريا الحديثة، وهي تراكيب تحمل قيمة قومية تتجاوز الحدود الجغرافية.
وبعد أسبوع واحد فقط، كان المشهد مختلفًا تمامًا؛ إذ اكتمل العمل على معظم التراكيب التراثية، وظهر حجم الإنجاز الحقيقي الذي قام به المرممون، من خلال إعادة التراكيب والشواهد إلى شكلها الأصلي، بما يضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة، دون طمس أو تشويه أو إخلال بالقيم الفنية والتاريخية.
ومنذ عام 2020، وأنا أتابع هذه المقابر التراثية في أماكنها الأصلية، وكنت ولا أزال أتمنى الحفاظ على كل جزء من المباني والقباب والفراغات المعمارية، جنبًا إلى جنب مع حماية الشواهد والتراكيب. فالشاهد لا ينفصل عن القبة، والتركيبة لا تنفصل عن سياقها المعماري والروحي، والحفاظ الحقيقي على التراث الجنائزي لا يكتمل إلا بحماية الكل، لا الجزء فقط.
هذه التجربة لم تكن مجرد زيارة ميدانية، بل شهادة حية على قدرة المرمم المصري على إعادة الحياة للحجر، وصون ذاكرة وطن كامل محفورة في الرخام والنقوش والآيات.

