توثيق الشواهد وتجميعها في مقابر الخالدين

تُعد عملية توثيق الشواهد الأثرية وتجميعها داخل مقابر الخالدين خطوة محورية في الحفاظ على ذاكرة مصر الوطنية، إذ لا تقتصر هذه الشواهد على كونها عناصر جنائزية فحسب، بل تمثل وثائق حجرية ناطقة بتاريخ الرموز الثقافية والسياسية والفكرية التي أثرت في وجدان المجتمع المصري. ويأتي هذا العمل في إطار رؤية تهدف إلى صون التراث الجنائزي وحمايته من عوامل التلف و الاندثار، مع إعادة تقديمه في سياق يحفظ قيمته التاريخية والجمالية.
وقد شهدت هذه الجهود دورًا بارزًا للمرممين المتخصصين، حيث قام المهندس أحمد فتحي (شركة إبداع) للمقاولات و المرممين ومن بينهم الأستاذ محمود البحراوي بتنفيذ أعمال دقيقة شملت توثيق الشواهد قبل نقلها أو تجميعها، ورصد حالتها الإنشائية والفنية، وتسجيل النصوص الكتابية والزخارف بدقة علمية تضمن عدم فقدان أي تفاصيل أصلية. كما تضمنت الأعمال ترميم التراكيب الحجرية، ومعالجة مظاهر التآكل والشروخ، وتثبيت العناصر الزخرفية مع الالتزام الكامل بالمعايير الأثرية المتعارف عليها.
ويبرز هذا المشروع أهمية الجمع بين الترميم والتوثيق كمسارين متكاملين، فالتجميع داخل مقابر الخالدين لم يكن مجرد ترتيب مكاني، بل إعادة صياغة للذاكرة التاريخية في إطار يحترم التسلسل الزمني والبعد الرمزي لكل شاهد. وبذلك تتحول مقابر الخالدين إلى سجل مفتوح لتاريخ الشخصيات المؤثرة، ومتحف جنائزي يعكس تطور الفن المعماري والكتابي عبر العصور الحديثة.
إن توثيق الشواهد وتجميعها في مقابر الخالدين يمثل نموذجًا متقدمًا في إدارة التراث، ويؤكد أن الحفاظ على الهوية التاريخية لا يتحقق إلا عبر عمل علمي رصين يوازن بين صون الأصل وإتاحة المعرفة، بما يضمن بقاء هذه الشواهد شاهدًا حيًا على تاريخ لا يجوز أن يُنسى.

