أنباء اليوم
 أنباء اليوم

أنماط التعلّق: خرائطنا العاطفية الأولى بقلم: ولاء مقدام

الكاتبة ولاء مقدام
أنباء اليوم -

هل تساءلت يوماً لماذا تتصرف بطريقة معينة في علاقاتك؟ لماذا يبدو البعض مرتاحاً للتقارب، بينما يهرب آخرون منه؟ ولماذا يشعر آخرون بقلق دائم تجاه علاقتهم؟ غالباً ما تكمن الإجابة في “أنماط التعلق” التي تشكّلت في طفولتنا المبكرة.

نظرية التعلّق، التي أسسها جون بولبي، توضّح كيف تحدد علاقتنا الأولى بمقدّمي الرعاية (عادة الأم أو الأب) “خريطة علاقاتية” نتابعها طوال حياتنا. هذه الخريطة ترسم كيف نرى أنفسنا (هل نستحق الحب؟) وكيف نرى الآخرين (هل يمكن الوثوق بهم؟).
لنستعرض معاً الأنماط الأربعة الأساسية:


---

1. النمط الآمن

ينشأ هذا النمط في بيئة أسرية مستقرة، حيث يتلقى الطفل استجابة سريعة ومتسقة لاحتياجاته، فيجد الحب والتفهم والاحتواء.

كيف يتشكل؟
عندما يبكي الطفل، تحضنه أمه. عندما يخاف، يجد من يهدئه. يشعر بالأمان لاستكشاف العالم لأنه يعلم أن هناك ملاذاً يعود إليه.

في العلاقات البالغة:

الراحة في التقارب: يشعرون بالأمان في العلاقات الحميمة، ويستطيعون الاعتماد على الآخرين والسماح للآخرين بالاعتماد عليهم.

التواصل الواضح: يعبرون عن مشاعرهم واحتياجاتهم بصدق دون خوف.

إدارة الخلافات بنضج: لا يعتبرون الخلاف تهديداً للعلاقة ويسعون لحلول بنّاءة.

الثقة: يمنحون الثقة بسهولة ما لم تُخيب.


مثال:
تشعر “ياسمين” بالضغط في العمل، فتتصل بشريكها “خالد” وتقول: “أنا مرهقة اليوم وأحتاج عناقاً.” طلبها مباشر وواضح، و”خالد” يستجيب لها بحنان لأنه يمتلك نمطاً آمناً أيضاً.


---

2. النمط القَلِق / المشغول

ينشأ هذا النمط حين تكون استجابة الوالدين غير متسقة؛ أحياناً حاضرة وحنونة، وأحياناً أخرى غائبة أو مُهملة. فيعيش الطفل في حالة قلق وعدم يقين.

كيف يتشكل؟
الطفل لا يعرف متى سيحصل على الاستجابة، فيصبح يقظاً ومتشبثاً بمقدّم الرعاية لضمان تلبية احتياجاته.

في العلاقات البالغة:

توق شديد للتقارب: يحتاجون إلى الاطمئنان المستمر.

حساسية للرفض والنقد: أي إشارة بسيطة قد تفسَّر كابتعاد.

التدقيق في التفاصيل: يراقبون نبرة الصوت والرسائل بحثاً عن دليل على فقدان الاهتمام.

الدرامية: قد يلجؤون للغيرة أو الشجار لجذب الانتباه.


مثال:
يرسل “أحمد” (ذو النمط القلق) رسالة لشريكته “سارة” ولا تتجاوب لساعات. يبدأ التفكير: “هل هي غاضبة؟ هل لم تعد تحبني؟” فيتصل بها مراراً ويرسل رسائل متتابعة، ما يسبب لها شعوراً بالضغط.


---

3. النمط المتجنب / الخائف

يتشكل عندما يكون مقدّم الرعاية متجاهلاً لاحتياجات الطفل العاطفية، فيتعلم الطفل أن التعبير عن مشاعره مؤلم أو غير مقبول.

كيف يتشكل؟
يُترك الطفل ليبكي وحده “كي يعتمد على نفسه”. وعندما يخاف، يُقال له: “لا تكن جباناً.” فيتعلم أن المشاعر يجب كبتها.

في العلاقات البالغة:

تقييد المشاعر: يظهرون باردين ومستقلين بشكل مفرط.

الخوف من التقارب: يشعرون بعدم الارتياح في العلاقات العميقة.

الانسحاب عند الخلاف: يهربون بدلاً من مناقشة المشكلة.

تقديس الاستقلالية: يعتبرون الاعتماد على الآخرين ضعفاً.


مثال:
“نور” (متجنّبة) في علاقة مع “عمر”. كلما حاول الحديث عن المستقبل أو مشاعره، تغيّر الموضوع أو تتحجج بالانشغال. وإن أصر، تشعر بأنها محاصرة وقد تفكر بإنهاء العلاقة.


---

4. النمط غير المنظم (المضطرب)

النمط الأكثر تعقيداً، ويتشكل عندما يكون مقدّم الرعاية نفسه مصدراً للخوف والأذى. فيلجأ الطفل لمن يفترض أنه مصدر الأمان، ليجده مصدر التهديد.

كيف يتشكل؟
في بيئات مليئة بالإهمال، الإساءة، أو التناقضات الشديدة.

في العلاقات البالغة:

رغبة بالحب مع خوف منه: تظهر سلوكيات متناقضة.

صعوبة في تنظيم المشاعر: قد ينفجرون غضباً أو ينهارون فجأة.

علاقات مؤذية: ينجذبون لعلاقات تعيد لهم جروح الطفولة.

تشويه صورة الذات: يشعرون بعدم الاستحقاق وصعوبة الثقة.


مثال:
“زياد” (نمط غير منظم) يتشاجر مع شريكته، فيبدأ بالإهانات، ثم ينهار باكياً ويتوسل ألا تتركه. حتى هو لا يفهم تناقض مشاعره.


---

الخبر السار: الخرائط قابلة لإعادة الرسم

معرفة نمط تعلقك ليست حكماً نهائياً عليك، بل خطوة لفهم نفسك وجروحك. النمط الآمن هو الهدف، ويمكن بناؤه من خلال:

العلاج النفسي: خاصة العلاجات المتمركزة حول التعلّق.

العلاقات الآمنة: وجود شريك أو صديق ذو نمط آمن يوفر “تجربة مصحّحة”.

الوعي الذاتي: مراقبة سلوكياتك وفهم جذورها هو بداية الشفاء.


أنماط التعلّق ليست أحكاماً، بل مصابيح تُنير الطريق. فهمها يمنحنا الرحمة تجاه أنفسنا والآخرين، ويتيح لنا تغيير المسار من الخوف والقلق إلى الأمان والاستقرار العاطفي.