”الشارقة للكتاب” يفتح نوافذ جديدة بين القارئ والحياة

في كل عام، يتحوّل معرض الشارقة الدولي للكتاب إلى أكثر من مجرد حدث ثقافي؛ إنه احتفالٌ بالمعرفة والخيال، وفضاء يلتقي فيه عشّاق الكلمة من مختلف أنحاء العالم تحت شعارٍ يتجاوز حدود القراءة.
وفي دورته الـ44 التي تُقام هذا العام تحت شعار "بينك وبين الكتاب"، يواصل معرض الشارقة أداء رسالته في بناء جسورٍ من الحوار الإنساني، حيث يصبح الكتاب نقطة التقاء بين الثقافات والأجيال والأحلام.
ومنذ لحظة دخول الزائر إلى أروقة مركز إكسبو الشارقة، تبدأ رحلة خاصة مع الورق والحبر والذاكرة. بين أجنحة تمتدّ على آلاف الأمتار، ومكتبات من مختلف الدول، تتجاور الكتب كأنها خرائط للروح، وتتناثر القصص على رفوفٍ تشبه الأبواب المفتوحة على عوالم لا تنتهي.
تسمع لغاتٍ عديدة تتوحد في صوتٍ واحد هو صوت القراءة، وتشاهد الأطفال يحتضنون كتبهم كما لو أنهم اكتشفوا كنزًا جديدًا، فيما يقف الكبار أمام العناوين القديمة بابتسامةٍ تعيدهم إلى بداياتهم الأولى مع الحرف.
في هذا المكان الذي لا يشيخ، لا تُباع الكتب فحسب، بل تُستعاد معها الثقة في أن المعرفة قادرة على شفاء الروح وتغيير المسار. وبين آلاف الزوار الذين يملأون القاعات يوميًا، تبرز حكاياتٌ فردية تحمل في طيّاتها ملامح إنسانية عميقة، كما لو أن كل قارئ يكتب فصلاً جديدًا في كتاب الحياة.
الطالبة عالية أحمد كانت واحدة من هؤلاء الذين وجدوا في القراءة خلاصًا نفسيًا من الوحدة، إذ روت كيف أن كتاب "محاط بالنعم" غيّر نظرتها للعالم، قائلة : شعرت أنني أنا من تكتب هذه الصفحات، كأنها تعكس حياتي تمامًا. الكتاب جعلني أرى ما حولي من خيرٍ كنت أغفله، وعلّمني أن الامتنان هو بداية النور».
ومن تلك اللحظة، بدأت عالية تكتب تجربتها الشخصية في كتيبٍ رقمي بعنوان «من العزلة إلى الضوء»، تؤكد فيه أن القراءة كانت نقطة التحوّل التي جعلتها تعود إلى ذاتها وتتصالح مع الحياة.
أما سلمى بسيوني، أمينة إحدى المكتبات في دبي، فتحدّثت عن كتابٍ آخر غيّر تفاصيل حياتها اليومية. قالت بابتسامة يغمرها الإيمان: كتاب معجزات الزبد جعلني أوقن أن لا شيء مستحيل، وأن الإيمان قادر على تغيير الواقع مهما بدا صعبًا».
ولم تتوقف سلمى عند هذا العنوان، بل واصلت رحلتها مع كتاب "جلسات نفسية" للكاتب محمد إبراهيم، الذي مزج فيه بين الأدب والعلاج النفسي بأسلوبٍ بسيط قريب من القارئ. وأضافت: وجدت بين صفحاته مساحة لمصالحة الذات، كأنه جلسة صادقة مع النفس، تذكّرني بأن السلام الداخلي هو أول خطوة في طريق السعادة».
وفي جناح التنمية البشرية والإدارة، كان الدكتور ميسر الطائي من كلية إدارة الأعمال بجامعة الشارقة يتحدث عن كتابٍ يرى فيه دليلًا عمليًا لبناء الشخصية القيادية، قائلاً: كتاب "العادات السبع للأشخاص الأكثر كفاءة" من أكثر الكتب التي أرشّحها لطلابي، لأنه يقدّم قواعد عملية يمكن لأي شاب أن يطبقها ليصبح أكثر نجاحًا واتزانًا».
ويضيف الطائي أن هذا النوع من الكتب «يمنح القارئ وعيًا أعمق بالمسؤولية ويعلّمه أن القيادة تبدأ من الداخل قبل أن تُمارس على الآخرين».
من جانبه، يرى الدكتور محمد قاسم شبول من جامعة الشارقة أن كتاب "كيف تصبح مديرًا ناجحًا" يقدّم خلاصة تجارب وخطوات يمكن لأي إنسان الاستفادة منها في تطوير ذاته، موضحًا أن القيادة ليست منصبًا بل مهارة حياتية تنفع في كل مجال، من إدارة الوقت إلى التعامل مع الناس».
بين أجنحةٍ تتسع لكل الثقافات واللغات، وبين توقيعات الكتّاب وورش الأطفال ولقاءات الأدباء، يواصل معرض الشارقة الدولي للكتاب هذا العام رسم مشهدٍ ثقافي وإنساني متفرّد.
فالشارقة لا تقدّم الكتاب كسلعة، بل كجسرٍ نحو المعنى، وكنافذة تطل على عوالم الفكر والإبداع. من هنا، تبدو القراءة فعلًا للحياة أكثر منها هواية، ومصدر إلهامٍ جماعي يذكّر الإنسان بأن التغيير يبدأ من صفحةٍ يقرر أن يفتحها.
وتتعدد الحكايات داخل المعرض، لكن خيطًا واحدًا يجمعها جميعًا: الإيمان بأن الكلمات قادرة على أن تغيّر الحياة ، وبين سطور الأدب والفكر والتنمية، يكتشف الزوار أن الكتاب ليس فقط وسيلة للمعرفة، بل رحلة داخل الذات، ونافذة تفتحها الشارقة للعالم كل عام لتقول: أن الحبر ما زال حيًّا، وإن القراءة ما زالت أجمل طرق النجاة.

