أنباء اليوم
 أنباء اليوم

تاريخ المتاحف المصرية وصون الهوية المصرية القديمة من محمد علي باشا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي

تاريخ المتاحف المصرية وصون الهوية المصرية القديمة من محمد علي باشا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي
تامر المنشاوي -

منذ مطلع القرن التاسع عشر، أدرك محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، أن النهضة لا تُبنى بالسيف وحده، بل بالعلم والمعرفة وحفظ التراث. فكانت عنايته بالآثار المصرية أول بذور الوعي المتحفي في مصر والعالم العربي، حين أصدر أوامره بجمع الآثار المصرية وصونها من النهب والتخريب، ليتم تأسيس أول متحف في منطقة الأزبكية عام 1835، وهو متحف بسيط في فكرته عظيم في أثره؛ إذ جمع القطع الأثرية من معابد الجنوب ومقابر طيبة القديمة، ووُضعت تحت إشراف الدولة لحمايتها. كان ذلك النواة الأولى للمتحف المصري العظيم، وبداية وعي وطني بأهمية التاريخ كجزء من هوية الدولة الحديثة.

ومع مرور العقود، تطورت الفكرة وازداد الاهتمام. في عهد الخديوي إسماعيل، الذي حلم بأن يجعل من مصر "قطعة من أوروبا"، شهدت القاهرة نهضة عمرانية وثقافية غير مسبوقة، وازدهرت الجهود لحماية الآثار. أُنشئ متحف بولاق عام 1858 بقيادة عالم الآثار الفرنسي أوجوست مارييت، ليكون أول متحف منظم للآثار المصرية في تاريخ مصر الحديث. كان المتحف يطل على النيل ويضم أهم كنوز الحضارة القديمة التي تم جمعها من الصعيد والدلتا، فصار مركز إشعاع علمي وثقافي.

توالت التطورات ففي زمن الخديوي عباس حلمي الثاني، نُقلت المجموعات الأثرية من بولاق إلى سراي الجيزة عام 1890 بعد أن تعرّض المتحف القديم للغرق. وأصبحت سراي الجيزة مقراً جديداً مؤقتاً للمقتنيات المصرية، وفيها أُعيد ترتيب القطع بشكل علمي حديث يليق بعظمة الحضارة المصرية. كان عباس حلمي من أكثر الحكام تقديراً للآثار المصرية، وشجع البعثات والاكتشافات الأثرية، حتى وُضع حجر الأساس لمتحف جديد دائم يكون واجهة مصر أمام العالم.

وجاء عام 1902 ليشهد افتتاح المتحف المصري بالتحرير، أيقونة المتاحف في الشرق الأوسط، وصرحاً معمارياً فريداً صممه المهندس الفرنسي مارسيل دورنون بأسلوب كلاسيكي حديث. ضم المتحف عشرات الآلاف من القطع الأثرية التي تحكي قصة مصر من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الروماني. ومن بين معروضاته التي أسرت قلوب العالم كنوز مقبرة توت عنخ آمون التي اكتُشفت عام 1922 بوادي الملوك على يد هوارد كارتر. وقد كانت زيارة الملك فاروق الأول للمتحف المصري حدثاً تاريخياً، حيث حرص على مشاهدة قناع توت عنخ آمون الذهبي عند عرضه لأول مرة أمام الجمهور، تأكيداً على اهتمامه بالحضارة المصرية وإدراكه لقيمتها الرمزية والسياسية كجسر بين الماضي والمستقبل.

وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، برز دور الدولة المصرية في حماية المتاحف وتطويرها. في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك شهدت المتاحف المصرية حركة تحديث شاملة في العرض المتحفي والتوثيق، وأُنشئت متاحف جديدة في المحافظات لتعزيز الوعي الأثري. كما شهد عهده لحظة تاريخية بالغة الأهمية حين وضع حجر الأساس للمتحف المصري الكبير عام 2002، إيذاناً ببدء مشروع ضخم يُعد من أكبر المتاحف في العالم، ليكون امتداداً طبيعياً للمتحف المصري بالتحرير، وواجهة عصرية لصون تراث مصر القديم أمام الأجيال القادمة.

ثم جاءت المرحلة الأحدث في تاريخ المتاحف المصرية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعاد صياغة العلاقة بين الدولة وموروثها الحضاري من منظور تنموي شامل. فقد شهدت مصر في عهده نهضة غير مسبوقة في المتاحف على مستوى العالم، حيث تم استكمال وتشطيب المتحف المصري الكبير بجوار أهرامات الجيزة، ليضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة كاملة في مكان واحد. هذا المشروع لا يمثل مجرد متحف، بل مدينة ثقافية متكاملة تعكس عبقرية المصري القديم وتؤكد أن الحضارة المصرية ليست ماضياً يُعرض خلف الزجاج، بل روح متجددة تبني المستقبل.

وهكذا، من متحف الأزبكية البسيط الذي أسسه محمد علي باشا إلى متحف بولاق الذي أرسى أسس التوثيق، مروراً بـ سراي الجيزة ومتحف التحرير الذي صار رمزاً عالمياً، وصولاً إلى المتحف المصري الكبير الذي بدأ حجر أساسه في عهد الرئيس الأسبق مبارك وبلغ اكتماله في عهد الرئيس السيسي، تمتد مسيرة المتاحف المصرية على مدى قرنين من الزمن، شاهدة على تطور الفكر الوطني وحب المصريين لتاريخهم. إنها قصة مصر التي لم تنقطع فيها خيوط الحضارة، من مقابر الملوك في طيبة إلى قاعات العرض الزجاجية في الجيزة، رحلة تحفظ الذاكرة وتُجدد معنى الخلود في وجدان الأمة وصون الهوية المصرية القديمة التي خلدت عبر العصور.