ثالوث الملك رمسيس الثاني بين بتاح و سخمت رحلة تاريخية من منف إلى المتحف المصري الكبير

في قلب التاريخ المصري، يقف تمثال ثالوث الملك رمسيس الثاني بين الإله بتاح والإلهة سخمت، شاهداً على عبقرية الفن المصري القديم وعلاقته بالسلطة والعبادة. هذا الثالوث، الذي كان رمزاً لعلاقة الملك بالإله ومركز العبادة في مدينة منف، أصبح اليوم أحد أبرز المعروضات في المتحف المصري الكبير، بعد رحلة طويلة عبر الزمن والمكان.
تعود أصول هذا الثالوث إلى مدينة منف، العاصمة القديمة لمصر الموحدة، حيث كان الإله بتاح محور العبادة ومعبود الحرفيين والمبدعين. ومعه تظهر سخمت، زوجته، لتكتمل الصورة الإلهية للعائلة السماوية، والتي تجسد الولاء، القوة والحماية. في عهد الملك رمسيس الثاني، تم إدراج الملك نفسه ضمن هذا الثالوث، كرمز لشرعيته الإلهية ومشاركته في البعد المقدس للمدينة.
مدينة منف لم تكن مجرد مركز ديني؛ بل كانت أيضاً مركزاً سياسياً وحضارياً هاماً. باعتبارها العاصمة الأولى لمصر الموحدة، احتضنت البلاط الملكي والمعابد الكبرى، وكانت مركزاً للصناعة والحرف، خصوصاً الحرف المتعلقة بالمعادن والبناء. عبادة الإله بتاح في منف جعلتها قبلة للحرفيين والفنانين، ما جعل المدينة مركزاً للابتكار الفني والهندسي. كما ارتبطت منف بالمقابر الملكية وسقارة، مما جعلها محوراً حيوياً للسياسة والدين في مصر القديمة.
تمثال الثالوث المصنوع من الجرانيت الأحمر يُظهر بتاح في مركزه، وسخمت بجواره، بينما يقف الملك رمسيس الثاني بينهما في تجسيد رمزي لدوره كابن إلهي. العمل الفني متقن التفاصيل، حيث تظهر ملامح الجسد البشري للملك بدقة، من العضلات إلى ملامح الوجه، لتأكيد مكانته بين البشر والآلهة على حد سواء.
اكتُشف التمثال في معبد بتاح وسخمت في منف، ثم انتقل ليُعرض في المتحف المصري بالتحرير. هناك، بقي لفترة طويلة شاهداً على عظمة الفن المصري.
كما وثقته صورة نيجاتيف نادرة التقطها عثمان بك المنشاوي منذ نحو تسعين عاماً، موثّقة اللحظة التي يجتمع فيها التاريخ والفن في قلب المتحف المصري بالقاهرة.
في عام 2019، تم نقل هذا التمثال إلى المتحف المصري الكبير ضمن خطة عرض القطع الأثرية الضخمة، ليكون جزءاً من رحلة الزوار في الاستقبال الكبير، حيث يلتقي التراث القديم بالتصميم العصري للمتحف. هذه الخطوة لم تكن مجرد تغيير مكان، بل تجسيد لمسيرة حضارية تمتد من العصر الفرعوني إلى العصر الحديث، وتعكس اهتمام مصر بإبراز تاريخها العريق بأسلوب يليق بعظمة حضارتها.
يمثل ثالوث رمسيس الثاني مع بتاح وسخمت أكثر من مجرد قطعة أثرية؛ فهو رسالة تاريخية وسياسية ودينية. يعكس العلاقة بين الملك والإله، ويبرز دور مدينة منف كمركز ديني وحضاري.
كما أن الصورة النيجاتيف التي التقطها عثمان بك المنشاوي للتمثال تُضيف بُعداً تاريخياً ووثائقياً، موثقة رحلة القطعة عبر عقود من الزمان قبل وصولها إلى المتحف الكبير.
ثالوث الملك رمسيس الثاني اليوم ليس مجرد أثر؛ إنه قصة مصرية تحكي كيف صاغ الفن الديني الملكية، وكيف حافظت مصر على إرثها لتقدمه للعالم في أبهى صورة.

