فراعنة على درج المستقبل

في لحظةٍ ينتظرها العالم منذ عقدين، تتزيّن القاهرة بثوبٍ من المجد والضوء، وتفتح ذراعيها لاستقبال حدثٍ هو الأضخم في تاريخها الثقافي الحديث.
في الأول من نوفمبر 2025، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا عند بوابة الأهرامات، ليعلن ميلاد فصلٍ جديد من فصول الحضارة، حيث يلتقي الحجر بالحداثة، ويصافح الماضيُ المستقبلَ على أرضٍ لا تعرف الفناء
ارتفعت على ضفاف الجيزة أنفاس الفراعنة من جديد، حين أُضيئت أروقة المتحف المصري الكبير، أضخم صرحٍ أثريٍّ وثقافي في العالم، ليعلن أن الحضارة لا تشيخ، وأن مصر التي حفرت اسمها في الحجر ما زالت قادرة على نقش ملامح المستقبل بيد التاريخ نفسه.
لقد استغرق تشييد هذه المعجزة عشرين عامًا من الصبر والمثابرة، وعبر خلالهما الوطن دروبًا من التحولات والأزمات، لكنه لم يتوقف عن الحلم.
منذ أن كانت الفكرة سطرًا على ورق في تسعينيات القرن الماضي، حتى أصبحت اليوم مدينةً من الضوء والذاكرة تمتد على نصف مليون متر مربع، عند عتبات الأهرامات التي تراقبها في صمتٍ كأمٍّ ترى أبناءها يعودون إلى حضنها بعد غياب طويل.
ذلك الدرج العظيم، الممتدّ كنبضٍ في قلب المتحف، ليس مجرد بناء من حجارة؛ بل هو سُلّمٌ يعلو عليه الفراعنة نحو المستقبل.
رمسيس الثاني يستقبل الزائرين في بهو المدخل، شامخًا كأنه يعلن افتتاح فصلٍ جديدٍ من الكتاب الذهبي الذي لم يُغلق بعد.
خلفه يلمع قناع "توت عنخ آمون" كعينٍ خالدة تراقب دهشة العالم، وتبتسم لكل من يمر أمامها من زوارٍ وملوكٍ وعشّاقٍ للتاريخ.
لم يكن الطريق سهلاً.
اضطراباتٌ أوقفت العمل، وجائحةٌ كبّلت الأيدي، وأزماتٌ اقتصادية اختبرت الصبر.
لكنّ الحلم كان أكبر من كل عثرة، والنية كانت أصدق من كل تأجيل، حتى نهض البناء أخيرًا كأنّه معبدٌ خرج من رحم الصحراء، تُظلّله الشمس وتباركه الأهرامات.
إنه ليس متحفًا فحسب؛
إنه رواية مصر الكبرى تُروى بالحجر والذهب والنور.
في قاعاته الاثنتي عشرة تتجاور الأزمنة، وتتحدث الآثار بلسان واحد، فيما تتشابك التقنيات الحديثة مع السحر القديم لتعيد للحضارة المصرية نبضها الأول.
من تماثيل الملوك إلى مركب خوفو، ومن المسلة المعلقة إلى مكتبة العلماء، كل ركنٍ فيه يهمس بأن الخلود ليس أسطورة... بل هو مصريّ الأصل والمنبت.
يقول الخبراء إن المتحف الأخضر الأول في إفريقيا، والوحيد المخصص لحضارة واحدة، هو معجزة هندسية وثقافية، لكن الحقيقة الأعمق أنه مرآةٌ لروح مصر روحٌ تعرف كيف تعبر العصور دون أن تنكسر، وكيف تمسك بخيط النور حتى وهي تمشي في الظلال.
ها هو الزمن يصعد درج الفراعنة...
يمرّ بين تماثيلهم كطفلٍ يستعيد ذاكرته الأولى،
ويتوقف أمام قناعٍ ذهبيٍّ ليقول لنفسه: كنتُ هنا... وما زلتُ هنا.
المتحف المصري الكبير ليس حدثًا عابرًا،
بل وعدٌ متجدّد بأن مصر ما زالت أمّ التاريخ،
تجمع بين حضارةٍ وُلدت قبل الزمن، وحلمٍ لا ينتهي بعده.
ففي كل حجرٍ هناك حكاية،
وفي كل قاعةٍ هناك قلبٌ ينبض بأصواتٍ من آلاف السنين،
تقول للعالم أجمع:
هنا ينام الخلود... وهنا يستيقظ من جديد.

