أنباء اليوم
 أنباء اليوم

صرخة تنبيه

-

طفل يقتل... ومجتمع ينزف

جريمة الإسماعيلية... حين يتحول الطفل إلى قاتل والمجتمع إلى ضحية

بقلم - د. رحاب جاد

في واحدة من أبشع الجرائم التي هزّت الرأي العام المصري، أقدم طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره على قتل زميله البالغ من العمر اثني عشر عامًا في محافظة الإسماعيلية، ثم قام بتقطيع جثته إلى أجزاء مستخدمًا منشارًا كهربائيًا، بل وادّعى أنه تذوّق قطعة من لحم ضحيته، واصفًا طعمها بأنه “يشبه البانيه”.

جريمة تقشعر لها الأبدان، لكنها تطرح سؤالًا أكبر وأعمق: ماذا حدث لأطفالنا؟ وماذا حدث لمجتمعنا؟

مأساة تتجاوز حدود الجريمة

اعترافات الطفل القاتل لم تكن فقط صادمة، بل كشفت عن خلل نفسي وسلوكي حاد، لا يمكن عزله عن البيئة التي نشأ فيها. فقد أكدت التحريات أن الطفل كان متأثرًا بفيلم أجنبي عنيف يتناول قصة قاتل متسلسل يقطع ضحاياه، وأنه حاول تقليده بدافع “الفضول والتجربة”.

ورغم بشاعة الفعل، إلا أن جوهر القضية لا يكمن في “كيف قتل”، بل في كيف وصل طفل في هذا العمر إلى درجة انعدام الإحساس الإنساني؟

التحليل النفسي: غياب الوعي العاطفي وخلل القيم

من منظور علم النفس، ما فعله الطفل لا يمكن فهمه دون النظر إلى مرحلة المراهقة المبكرة، التي تتسم بتقلبات انفعالية وضعف السيطرة على الدوافع.

لكن أن يتحول الغضب إلى قتل وتمثيل بالجثة، فهذا يشير إلى اضطراب في التكوين الوجداني ونقص في التعاطف الإنساني.

الطفل هنا ليس وحشًا بالمعنى البيولوجي، بل نتاج تربية مهزوزة ومجتمع فقد بوصلته الأخلاقية.

حين يغيب الاحتواء الأسري، ويُترك الطفل يكوّن قيمه من الإنترنت والأفلام، يصبح ما يشاهده هو مرجعيته الأولى، حتى لو كان مليئًا بالعنف والدماء.

التحليل الاجتماعي: مجتمع يواجه أزمة قيم

القضية ليست حدثًا منفصلًا، بل عرضٌ لمرضٍ اجتماعي أعمق:

1. تفكك أسري متزايد يجعل الأطفال يعيشون فراغًا عاطفيًا قاتلًا.

2. ضعف الرقابة على المحتوى الرقمي، حيث يشاهد الأطفال أفلامًا وألعابًا تحوّل القتل إلى متعة.

3. غياب التربية الوجدانية في المدارس، فالمعلم منشغل بالمناهج، وليس ببناء الضمير.

4. تراجع القدوة والمثل الأعلى في البيت والإعلام والمجتمع.

حين يفقد الطفل الإحساس بأن الحياة مقدسة، يصبح الموت مجرد مشهد جديد في “فيلم آخر”.

أين يكمن الخلل؟

الخلل الحقيقي ليس في هذا الطفل وحده، بل في نظام تربوي وإعلامي وأسري كامل أهمل البعد النفسي والروحي في بناء الإنسان.

الأسرة مشغولة بتوفير الطعام والإنفاق، والمدرسة تركّز على الدرجات، والإعلام يبيع مشاهد الدم والعنف تحت شعار “الترفيه”.

لقد أصبحنا نُخرّج جيلًا يعرف الكثير لكنه يشعر بالقليل.

كيف نحمي أبناءنا؟

1. الرقابة الواعية على ما يشاهده الأطفال، مع الحوار لا المنع الأعمى.

2. إعادة التربية الوجدانية والدينية داخل الأسرة والمدرسة.

3. تفعيل دور الأخصائي النفسي والاجتماعي في المدارس لاكتشاف الحالات المضطربة مبكرًا.

4. توعية الأهل بخطورة الإهمال العاطفي، فالحب والأمان ليسا رفاهية بل وقاية من الانحراف.

5. مراقبة المحتوى الإعلامي ومحاسبة صناع العنف البصري الذين يربّون أطفالنا على القسوة لا الرحمة.

في الختام

جريمة الإسماعيلية ليست فقط مأساة ضحية وطفل قاتل، بل صرخة تنبيه لمجتمع بأكمله.

طفل واحد ارتكب الجريمة، لكننا جميعًا شاركنا في صناعة البيئة التي سمحت بها.

فإن لم نُصلح منظومة التربية والإعلام والقيم، فسنجد غدًا من يقتل دون سبب... ومن يصف الجريمة بأنها “لعبة جديدة”.