أنباء اليوم
 أنباء اليوم

محمود سامي باشا البارودي شاعر الثورة ومقبرته في الإمام الشافعي شاهد على ذاكرة الوطن

صورة توضيحية
تامر المنشاوي -


يُعد محمود سامي باشا البارودي (1839 – 1904) واحدًا من أبرز أعلام مصر في القرن التاسع عشر، فهو لم يكن مجرد قائد سياسي وعسكري ارتبط اسمه بالثورة العرابية، وإنما كان أيضًا شاعرًا مجددًا حمل لواء النهضة الأدبية، حتى لُقب بـ "رب السيف والقلم".
وُلد البارودي في القاهرة عام 1839 في أسرة عريقة تنتمي إلى أصول شركسية، وتلقى تعليمه في المدارس الحربية ثم أُرسل في بعثة إلى الأستانة، حيث نهل من الثقافة والسياسة والعلوم العسكرية. وكان موهبته الشعرية هي التي صاغت ملامحه الأولى، إذ أعاد للقصيدة العربية مجدها، وأحيا روح الفروسية والمروءة، كاسرًا قيود الركود التي سيطرت على الشعر لقرون.
كان شعره تعبيرًا صادقًا عن شخصيته وعن عصره، فكتب في الوطنية والثورة، ودعا إلى العزة والحرية، كما عبّر عن تجاربه الشخصية من حب ووفاء وحزن وغربة. وفي منفاه بجزيرة سيلان كتب أروع قصائده التي امتلأت بالحنين إلى مصر والشكوى من مرارة البعد. لقد أسس مدرسة شعرية كبرى عُرفت بـ "مدرسة الإحياء والبعث"، وخرج من عباءته أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهما من رواد النهضة الأدبية، ما جعله بحق حجر الأساس للشعر العربي الحديث.
إلى جانب مكانته الأدبية، لعب البارودي دورًا بارزًا في السياسة، فشارك في الثورة العرابية عام 1882 إلى جانب أحمد عرابي، وتولى رئاسة الوزارة فيما عُرف بوزارة الثورة، قبل أن تُهزم الحركة في معركة التل الكبير وتبدأ رحلة النفي الطويل. قضى سبعة عشر عامًا في سيلان بعيدًا عن وطنه، يعاني الغربة والمرض، لكنه ظل يكتب شعرًا يحمل الكبرياء ويُخلد روحه الثائرة.
عاد إلى مصر عام 1899 بعد عفو جزئي، لكنه كان قد أنهكته السنوات وفقد بصره، ورغم ذلك ظل رمزًا حيًا للكفاح الوطني وللشاعر المقاتل الذي جمع بين قوة السيف وبلاغة الكلمة.
توفي البارودي في 12 ديسمبر 1904، وشيّعته القاهرة في جنازة مهيبة، ودُفن في مقبرة فخمة بجبانة الإمام الشافعي. وقد أقيمت له مقصورة نحاسية فريدة فوق قبره، ما منح مدفنه طابعًا مميزًا يجعله من أهم أضرحة الشخصيات الوطنية والأدبية في مصر.
وتكمن الأهمية التاريخية لمقبرة البارودي في موقعها داخل جبانة الإمام الشافعي، حيث يجاور ضريح أحمد عرابي، رفيق دربه في الثورة العرابية. إن اجتماع الزعيمين في مكان واحد، بعد أن فرّق بينهما النفي والظروف السياسية، يُمثل رمزًا بالغ الدلالة في الذاكرة الوطنية، كأنما التاريخ جمعهما ثانية ليرقدا جنبًا إلى جنب في أرض مصر، بعد أن عاشا سنوات المنفى والحرمان بعيدًا عنها. وجودهما معًا في هذا الفضاء الروحاني يعطي الجبانة بُعدًا تاريخيًا إضافيًا، فهي لم تعد فقط مقبرة للأولياء والعلماء، بل صارت أيضًا سجلًا لذاكرة الكفاح الوطني ورمزًا للمقاومة في القرن التاسع عشر.
يبقى محمود سامي باشا البارودي نموذجًا فريدًا للشاعر المقاتل والسياسي المثقف، والرجل الذي أعاد للشعر العربي أصالته، وحفر اسمه في ذاكرة مصر كأحد كبار رموز النهضة الوطنية والأدبية، وظلت مقبرته في الإمام الشافعي، إلى جوار مقبرة أحمد عرابي، عنوانًا خالدًا على حضوره وخلوده في وجدان الأمة.