أنباء اليوم
 أنباء اليوم

جبانات مصر القديمة والإسلامية ذاكرة خالدة بين منف والسيدة نفيسة والإمام الشافعي

تامر المنشاوي -


تمثل الجبانات في مصر مرآة صادقة لحضارتها الممتدة عبر آلاف السنين، فهي ليست مجرد أماكن للدفن، بل سجل حي لتاريخ الدولة ورجالها العظام، ورمز لامتداد العقيدة والفكر. وتأتي جبانة منف في مقدمة هذه الأماكن التاريخية، إذ ارتبطت بعاصمة مصر الأولى منف، وكانت المركز الرئيسي لدفن الملوك وكبار رجال الدولة والموظفين والقادة العسكريين الذين خدموا في بلاط الفراعنة. وداخل هذه الجبانة الشاسعة، شيدت أهرامات ملوك مصر لتكون شاهدة على عظمة السلطة الملكية، حيث أقيمت أهرامات الملك زوسر المدرج، وسنفرو، وخوفو، وخفرع، ومنقرع وغيرهم، لتشكل سلسلة معمارية خالدة تمثل قمّة الإبداع الهندسي والرمز الأبدي للحياة الأخرى.
إلى جانب هذه الأهرامات الملكية، تزينت جبانة منف بمقابر عظماء رجال الدولة الذين سجلوا على جدرانها تفاصيل دقيقة عن حياتهم وإدارتهم، مثل مقبرة بتاح حتب في سقارة، الوزير والحكيم الذي ترك لنا نصوصًا تعليمية تعد من أقدم ما وصل إلينا عن الفكر والأخلاق في مصر القديمة. كما نجد مقبرة كاجمني أحد كبار رجال الدولة في الأسرة الخامسة، المزدانة بمناظر الحياة اليومية، ومقبرة مرروكا الوزير الذي امتلك أوسع مقابر الدولة القديمة وأكثرها روعة، حيث تحولت جبانة منف بحق إلى مكتبة حجرية تحفظ أسرار الحكم والإدارة والفكر والعقيدة.
أما في قلب القاهرة التاريخية، فتقف جبانة السيدة نفيسة كأحد أبرز معالم العصور الإسلامية، إذ ارتبطت بوجود العالمة الجليلة السيدة نفيسة بنت الحسن، حفيدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي جاء ذكرها بين أولياء مصر وأقطابها الروحانيين. تحولت هذه الجبانة إلى مقصد للزائرين وطلاب البركة والروحانية، وجذبت حولها أضرحة لعدد من كبار العلماء مثل الإمام الليث بن سعد، الفقيه المصري الكبير، إضافة إلى أضرحة تعود للعصر الفاطمي والمملوكي والعثماني، ثم عصر أسرة محمد علي باشا. وقد اتسعت الجبانة لتضم رموزًا وطنية وفكرية من العصر الحديث، من أبرزهم الزعيم محمد فريد وعلي باشا مبارك، كما تضم قبة الخلفاء العباسيين، وقبور السيدة جوهرة، وسيدي الحناوي، وسيدي موافي الدين، لتصبح مركز إشعاع روحي وفكري ممتد عبر العصور.
وعلى مقربة منها، تتجلى جبانة الإمام الشافعي، أحد أعمدة الفقه الإسلامي الذي قدم إلى مصر ليترك فيها أثرًا خالدًا. ضريحه الذي شيد له السلطان الكامل الأيوبي قبة ضخمة في القرن السابع الهجري يعد من أروع القباب الإسلامية، وتحول إلى قبلة للطلاب والمريدين. وحول الضريح نشأت مقابر لكبار رجال الدولة والعلماء عبر العصور المملوكية والعثمانية، ومنها قبور أمراء وقضاة ونخب سياسية. ومن بين المقابر الشهيرة في هذه الجبانة، مقبرة علي بك الكبير، وحوش الباشا، وقبر إبراهيم باشا، إضافة إلى قبر المستشار أحمد الخازندار، وضريح الشاعر محمود سامي البارودي رائد النهضة وزعيم الثورة العرابية، وكذلك مقابر محمد راتب باشا سردار الجيش المصري في عهد الخديوي إسماعيل، وإسماعيل سليم ناظر الجهادية، والأمير التركي مصطفى منير أدهم الذي لعب دورًا مهمًا في الحياة الفكرية بشرحه لرحلة الإمام الشافعي في مصر، وأمير الصعيد محمد فاضل باشا الدرامالي، إلى جانب مقبرة نقيب المحامين إبراهيم بك الهلباوي أول نقيب للمحامين وأحد أعلام القانون في مصر الحديثة، وكذلك قبر يحيي باشا إبراهيم رئيس الوزراء وصاحب دستور 1923 الذي أسس للحياة النيابية والدستورية الحديثة في مصر. وهكذا تحولت جبانة الإمام الشافعي إلى سجل وطني جامع يحفظ رموز السياسة والفكر والجهاد الوطني والديني.
وتكمن أهمية هذه الجبانات في تكاملها التاريخي والحضاري؛ فجبانة منف تمثل مرحلة التأسيس في مصر القديمة، حيث تجلت فيها مكانة الملوك ورجال الدولة معًا، في ظل أهرامات شاهقة وأضرحة فريدة، لتكون مرآة صادقة للسلطة والإدارة والفكر في عصر الفراعنة. ثم جاءت جبانة السيدة نفيسة لتعكس الجانب الروحي والديني في العصر الإسلامي، حيث تحولت إلى مركز يجمع بين العبادة والعلم والبركة، جامعًا بين أولياء الله ورموز النهضة الفكرية والوطنية. أما جبانة الإمام الشافعي فقد شكلت حلقة وصل بين الجانب الروحي والديني من جهة، والجانب الوطني والسياسي من جهة أخرى، حيث احتضنت أضرحة علماء وفقهاء إلى جانب رموز وطنية وسياسية بارزة.
وهكذا، فإن هذه الجبانات تكمل بعضها بعضًا، لترسم لوحة متكاملة عن مسيرة مصر من الأهرامات والجبانات الملكية في الدولة القديمة، إلى مصر الروحية والفكرية والوطنية في العصور الإسلامية والحديثة، بما يجعلها سجلاً جامعًا للذاكرة المصرية بكل أبعادها.