أنباء اليوم
 أنباء اليوم

جبانة الإمام الشافعي حينما و دّعت بعض أبطالها ورموزها الوطنية

تامر المنشاوي -

لم تكن جبانة الإمام الشافعي مجرد مقبرة، بل كانت كتابًا مفتوحًا لتاريخ مصر، صفحاته من الرخام، وسطوره من الأرواح العظيمة التي صنعت المجد. هناك، حيث يرقد الإمام الشافعي رمز الفقه والروحانية، تداخلت الحكايات؛ فإلى جواره اصطفّت أضرحة شهداء الثورة، وقادة الجيوش، وشعراء النهضة، وفنانو السينما، وأبناء الأسر الكبرى الذين شكّلوا ملامح مصر الحديثة. كان المشهد أشبه بمتحف أبدي للذاكرة الوطنية، يروي للأجيال قصة وطن عاش وتجدّد في كل اسم محفور على شاهد قبر.

في تلك البقعة الطاهرة دُفن عباس أفندي محمد، شهيد من أبناء ثورة 1919، الذي سطّر بدمه صفحة من أنبل صفحات التضحية الوطنية. وبجوار هؤلاء الشهداء استراح قلب الفنان صلاح ذو الفقار الذي عاش بطلاً على الشاشة وخارجها. وهناك كان يرقد قاسم باشا، قبطان يخت المحروسة، المرتبط بحكايات الأسرة العلوية، إلى جانب السردار محمد راتب باشا قائد الجيش المصري، ورفيقه في الدفن إسماعيل سليم باشا ناظر الجهادية، الذي حمل على عاتقه مهمة إعادة بناء الجيش وتحديثه.

وتألقت في الجبانة قبة محمد فاضل باشا الدرمالي، تحفة معمارية بُنيت عام 1868، فيما احتوت الأضرحة على أسماء لامعة مثل مصطفى منير أدهم، الباحث والمؤرخ وصاحب كتاب الإمام الشافعي، الذي وثّق فيه سيرته وفكره ودوره في الفقه الإسلامي، ورشوان باشا عبد الله، ومحمود باشا الفلكي الذي رسم خرائط مصر وأسس لعلم الفلك الحديث، وحقي العظم السياسي الدمشقي الذي عاش جزءًا من حياته في قلب مصر. وحتى قصور الحكم أرسلت إلى الجبانة ظلها الاجتماعي، حينما دُفنت فيها معتوقة الخديوي إسماعيل "عشق بريان"، ومعاتيق إبراهيم حلمي، لتتحول المدافن إلى بانوراما طبقية وتاريخية فريدة.

وفي زاوية أخرى، اجتمع الشعر والسياسة في قبر محمود سامي البارودي، رائد مدرسة الإحياء والبعث وقائد الثورة العرابية، بينما حُفر اسم المستشار أحمد الخازندار في ذاكرة القضاء بعد اغتياله عام 1948، شاهدًا على مواجهة الإرهاب السياسي. ولم تخلُ الجبانة من بهاء الأميرات والأمراء، حيث دُفنت زهرة هانم فاضل، وارتفع ضريح الأمير يوسف كمال رائد الفنون الجميلة ومؤسس مدرسة الفنون. وهناك تألقت قبة نام شاذ قادين، المعروفة بقبة حليم باشا، وهي من أجمل التحف المعمارية ذات الطابع العثماني المتأخر، إذ حملت زخارف دقيقة وكتابات قرآنية رفيعة، ، فكانت القبة شاهدة على امتداد نفوذ الأسرة العلوية في عمران القاهرة.

كما ازدان المكان بوجود قبة كلزار هانم، زوجة حسين باشا، التي حملت قيمة تاريخية واجتماعية، عكست مكانة أسرتها و وجودها وسط هذه القامات يعكس شمولية الجبانة التي جمعت بين رموز الحكم والمجتمع والثقافة.

ولم يكن بعيدًا عن هذه القامات، وُجد قبر يحيى باشا إبراهيم، رئيس وزراء مصر وصاحب دستور 1923 الذي دشّن أول حياة نيابية حقيقية في تاريخ البلاد. كما احتضنت الجبانة مدفن الملكة فريدة، الزوجة السابقة للملك فاروق وأم بناته، التي اختارت أن تعيش حياتها بعد القصر بين البساطة والفن، فبقيت حاضرة في قلوب المصريين حتى بعد وفاتها. ومن بين القباب التاريخية، ارتفعت قبة رقية دودو العثمانية، تحفة معمارية حملت أسرار القرون الماضية.

ولم تقتصر الجبانة على الأفراد وحدهم، بل ضمّت بين جدرانها مدفن عائلة ثابت، إحدى العائلات العريقة التي ارتبط اسمها بالعمل العام والاقتصاد والاجتماع، لتكون شاهدة على مكانة الأسر الكبرى في تكوين النسيج المصري. وجود هذه الأسرة بجانب القادة والشعراء ورجال الدولة لم يكن مجرد دفن، بل كان تعبيرًا عن تكامل أدوار الطبقة الوطنية التي شاركت في صناعة مصر الحديثة.

إن اجتماع هؤلاء الرموز الوطنية بجوار الإمام الشافعي لم يكن مصادفة، بل كان قدرًا يحمل معنى عميقًا: أن مصر التي جمعت بين الدين والعلم، بين الوطنية والروحانية، بين الملوك والشهداء، أرادت أن تُجسّد في هذه البقعة صورة مكتملة لهويتها. كان مقام الإمام الشافعي قلبًا نابضًا بالفقه والإيمان، تحيط به أضرحة رجال صنعوا الدساتير، وخاضوا الحروب، وكتبوا الشعر، ورسموا الخرائط، و أسسوا الفنون.

وهكذا، لم تكن جبانة الإمام الشافعي مجرد مدافن صامتة، بل كانت جزءًا حيًا من النسيج العمراني للقاهرة، انعكست في قبابها وزخارفها هوية المدينة وتاريخها، وصارت رمزًا حضاريًا يجمع بين العمارة والفكر، بين البعد الديني والوطني.

ومع رحيل هذه المدافن اليوم، لا تغادر القاهرة مجرد قبور، بل تفقد طبقة من ذاكرتها، وملامح من هويتها العمرانية والثقافية غير أن التاريخ يأبى النسيان، وسيظل يروي أن في جبانة الإمام الشافعي اجتمع يومًا الإمام والملوك والشهداء والعلماء، في لوحة واحدة لا تتكرر، تشهد على أن مصر لا تنسى أبناءها الذين صنعوا مجدها.